كتب

لماذا عدّت روسيا مواجهتها مع ألمانيا النازية حربا وطنية عظمى؟

النازيون والفاشيون إلى حدّ ما وطنيون وجدوا أنفسهم في مواجهة مقاومة مسلحة أرادت لنفسها أن تكون وطنية
الكتاب: هل يجب أن نكره روسيا؟
الكاتب: روبير شارفان، ترجمة د.مروان إسبر
الناشر: الهيئة العامة السورية للكتب، دمشق 2022، (248 صفحة من القطع الكبير)


تفتيت الإمبراطورية الروسية

يقول روبير شارفان: "نتجت صفات الحرب العالمية الثانية عن السياسة التي تمارسها الدول الأوروبية والقوى غير الغربية (الولايات المتحدة واليابان بشكل خاص). إن اختصار الحرب، كما يقوم به جزء من العمل التأريخي الغربي (خصوصا الفيلسوف وعالم التاريخ الألماني E.Nolte)، بمناورات ألمانيا النازية وروسيا السوفييتية، هو خروج عن حقيقةٍ أكثر تعقيدا بكثير. إنّ الشرح الكاذب لاندلاع الصراع بالمواجهات بين دول "الأنظمة الشمولية" رغم الاتفاق المؤقت عام 1939 (المعاهدة الألمانية السوفييتية)، ليس سوى بناء استدلالي وسطحي للواقع. تعدّ مفاوضات الدول الأوروبية والولايات المتحدة فيما بعد حرب 1914 ـ 1918 مباشرة ومعاهدة فرساي لعام 1919، هي التي تشكّل المنشأ الأول للحرب العالمية الثانية. فحلفاء "التفاهم" كانوا يهدفون إلى التفتيت النهائي للإمبراطورية الروسية، الذي بدأ في صلح برست ليتوفيسك عام 1918.

كانت بريطانيا العظمى التي أعلنت نفسها مسؤولة عن تمدين سلافيي أوروبا الشرقية، مهتمة بالقوقاز، وبالطريق الذي يمر عبر القوقاز (الذي يسيطر على خط البترول)، وبجورجيا وبدول البلطيق، بما في ذلك معارضتها للجيوش البيضاء من أجل أن تستفيد من "الدول الاستقلالية" الموضوعة تحت وصايتها، عبر استخدامها للمشاعر المعادية لروسيا كأداة، لذلك كان قد شُرعَ بكلّ شيء من أجل فصل روسيا عن بحر البلطيق، وخلق منطقة حاجزة بين الروس والشرق. وبقي الطلب الروسي لإلغاء معاهدات برست ـ ليتوفيسك دون جواب. الأمر الأساسي بالنسبة لأوروبا الغربية، هو إبعاد روسيا عن منطقة البلطيق والبحر الأسود، وإخراج أوروبا الشرقية والبلقانيين عن سيطرة الألمان والروس بفضل تجزئة تلك المساحات إلى كيانات محرومة من الشخصية السياسية، ومن المبادرات التاريخية المستقلة. فيما يتعلق ببولونيا التي كانت تريد منفذا إلى بحر البلطيق والبحر الأسود عبر التفافها حول أوكرانيا، على الرغم من الحرب الروسية البولونية عام 1919 ـ 1920 (التي انتهت بمعاهدة ريغا)، حاولت أن تؤدي دورا مستقلا عندما اتجهت نحو ألمانيا، من أجل دفع "الدب الشمالي" "الآسيوي" و"البربري" (ص81-82).

في آسيا، أبدت القوى الغربية مجاملة تجاه اليابان التي انتهزت الأمر لمهاجمة الصين. نجد الأمر نفسه مع إيطاليا التي هاجمت الحبشة. الأمر الأساسي بالنسبة لها هو تجنب التغيير في علاقات القوى في أوروبا، ووضع روسيا السوفييتية تحت خطر دائم.

في سنوات الثلاثينيات 1930، كان هناك تأثير لثلاث مجموعات من المصالح المتباعدة، مصالح الاتحاد السوفييتي، ومصالح الدول الغربية، ومصالح الدول الفاشية. النزاعات كانت متعددة، وكانت تُضاف أحيانا إلى التناقضات الأساسية السابقة الذكر، دون أن تستطيع عصبة الأمم أن تؤدي أدنى دور لها (بولونيا وتشيكوسلوفاكيا فيما يتعلق بمنطقة سيبكارباسي /Subcarpatie/ وهنغاريا وتشيكوسلوفاكيا فيما يتعلق بسلوفينيا، إلخ). ظلت ديبلوماسية فرنسا وبريطانيا العظمى متمحورة حول الحفاظ على أوروبا الشرقية خارج سيطرة ألمانيا وروسيا.

كانت الحرب إذن نتيجة للعبة معقدة من المصالح الوطنية والاقتصادية حتى اللحظة، وذلك عام 1935، التي أصبحت فيها ألمانيا نازية، وأصبحت المنافس الرئيسي لبريطانيا العظمى، ولفرنسا والولايات المتحدة في أوروبا وفي الأسواق الدولية الكبرى. هنا غيرت الحرب طبيعتها، فالجبهة الوحيدة ضد الروس التي عدّت رئيسة في تلك اللحظة، لم تعد أولوية. في إطار هذا الالتباس عُقِدَت المعاهدات الروسية الألمانية التي لم تؤثر سوى في روزنامة الحرب، وجنّبت الاتحاد السوفييتيي أن يتحمل وحده العدوان الألماني المؤكد، متيحة له في الوقت نفسه احتلال مراكز استراتيجية، خصوصا في بلاد البلطيق.




التقليل من شأن المقاومة السوفييتية


من وجهة النظر السوفييتية، أصبحت المواجهةُ مع ألمانيا  النازية "حربا وطنية عظمى"، جُنّدت خلالها كل القوى الروسية مجتمعة في مواجهة البلاد الأوروبية الأخرى، التي معظم حكوماتها هي بين أيدي القوى المؤيدة لألمانيا والقوى الاستبدادية: يتعلق الأمر بحرب مدنية عالمية، النازيون والفاشيون إلى حدّ ما وطنيون، وجدوا أنفسهم في مواجهة مقاومة مسلحة أرادت لنفسها أن تكون وطنية، وهي غالبا ما تحركها قوى تناضل من أجل نظام اجتماعيّ مختلف (في فرنسا مثلا برنامج المجلس الوطني للمقاومة، الذي تمّ اعتماده عام 1943 من قِبل القوى الموحدة للمقاومة).

شكّلت الجبهةُ الألمانيةُ السوفييتية "الجبهة الرئيسة والحاسمة للحرب العالمية الثانية". إنّ بقاء روسيا وحيدة في مواجهة الجيوش الألمانية رغم النداءات المتكررة لفتح جبهة في الغرب، يفسّر في جزء أساسي الخسارة التي تعرّض لها الجنود الروس، والتوفير الهائل للجهاز الاقتصادي الوطني.

يقدم الكاتب شارفان ، أرقاما مذهلة لضحايا الحرب ضد النازية، فيقول: "مقارنة الكلفة الإنسانية التي تحمّلها كلٌّ من الحلفاء ذاتُ مدلول كبير، بالإجمال، وبجمع كل الجبهات تكونُ الحربُ العالمية الثانية قد أدّت إلى موت 60 ـ 80 مليون شخص، أربعون مليون منهم مدنيون، الضحايا السوفييت يشكلون 88% من خسارة الحلفاء في أوروبا، أي 25 مليون ضحية تقريبا (بما يعادل 14% من عدد السكان الإجمالي للاتحاد السوفييتي). 53% من العسكريين الذين قُتلوا في المعارك هم من الجيش الأحمر.

ويضيف: "الاتحاد السوفييتي هو الأكثر تأثرا، من جانب بعيد، بالتدمير المادي (حوالي 50% من مجموع الخسائر العالمية). أرقام الخسائر الغربية لا تُقاس بها، وحدها الصين عرفت خسائر مكافئة، أي 25 مليون قتيل. بالمقارنة مع الأعداد الإجمالية للضحايا على المستوى العالمي، تمثّل الخسائر البريطانية 1.8% من الخسائر، والخسائر الفرنسية 1.4، قتلى الجيش الأمريكي لا يمثلون سوى 1.3% من الرقم الإجمالي، أي 418000 ضحية من مجمل الغربيين (قتلى قوة الدفاع الألمانية تشكل 31% من ضحايا العسكريين الإجمالي)"(ص87

الدور التاريخي للشعب الروسي المسلح بحسّ وطني حادّ، كان قد ظهر بكل عظمته، سواء أكان متعلقا بجنوده أم بمدنييه؛ فقد ضمن المحافظة على أكثر القيم الإنسانية أسّيّة التي كان يشبهها النازيون، على العكس، بالانحطاط الكلي.


في الدراسات التاريخية، يُهمَلُ كذلك في أغلب الأحيان الضحايا الروس وروسيا البيضاء والأوكرانيين (السجناء، المهجرين، المدنيين الموقوفين.. إلخ) الذين أُبيدوا بالاضطهاد النازي، والذين يجاوز عددهم بشكل كبير أصناف الضحايا الأخرى كلها، (يهود، غجر، مقعدين، صرب، بولونيين، مثليي الجنس). 

ورغم كل شيء، وقفت روسيا السوفييتية في وجه أوروبا الخاضعة بالكامل لألمانيا النازية، وأسهمت أكثر من أيّ شيء آخر في تحريرها، كما كتب ف. إكس. كوكان /F.X.Coquin/ وهو أستاذ في المعهد العالي الفرنسي /College de France/. النصر العظيم الذي أُحرِزَ أصبح في روسيا "حجر الزاوية للضمير الوطني". الاحتفال بذكرى المعارك الكبرى مثل ستالينغراد (وكورسك خصوصا)، أصبحت مُلكا للتراث العالمي.

لولا مقاومة هذا العدوان الهتلري وسحق الرايخ الثالث بالكامل، الذي يُعبّر عنه باحتلال الجيش الأحمر لبرلين، لكان تاريخُ أوروبا هو تاريخ إقطاعية أوروبا الغربية في إطار تغيير جرمانوي شمولي.

الدور التاريخي للشعب الروسي المسلح بحسّ وطني حادّ، كان قد ظهر بكل عظمته؛ سواء أكان متعلقا بجنوده أم بمدنييه؛ فقد ضمن المحافظة على أكثر القيم الإنسانية أسّيّة التي كان يشبهها النازيون، على العكس، بالانحطاط الكلي. والحال أنّ هذه المشاركة من روسيا السوفييتية المنتصرة كان، منذ بدايات الحرب، مع بعض الاستثناءات، قد قُلّلَ من شأنها من أجل أن تنبذ بعد ذلك إلى مستوى ثانوي، بعد "إنزال النورماندي" للقوى القادمة من الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى. وحدها الولايات المتحدة هي من يمكن أن يكون قد قاتل بحقّ من أجل قيم "الحرية والديمقراطية"؛ لكونها سددت المطلوب بشكل كامل. في الحقيقة، وحتى قبل نهاية المواجهات العسكرية، كان العالم الغربي القلق من بقاء وانتصارات روسيا السوفييتية مشغول البال بعقلية ما بين الحربين نفسها، بكيفية "إيقاف" و"دفع" التأثير الروسي، وكذلك ترتيب البناء الأطلسي للدول الأوروبية.

يقول الكاتب شارفان: "وهكذا يكون التفسيرُ الحرفي لميثاق الأطلسي الذي أعدّه روزفلت وتشرشل منذ تاريخ 14/ آب/ 1941، رافضا مُقدَّما الاعتراف بالتغييرات الإقليمية دون الموافقة الصريحة من الشعوب المعنية بذلك. في الحقيقة، كانت الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى قد منحت نفسها سلطة إعادة الحقوق السيادية للشعوب التي سُلِبَت منها، ولكنّ هذه الشعوب كان يجب أن تكون موضوع اختيار تمييزي: فلا المستعمرات البريطانية ولا الأراضي التي خسرها الاتحاد السوفييتي كانت معنية بذلك. كان الأمر يتعلق في الواقع بالإعداد لمعاهدة "فيرساي ثانية"، صانعة "منطقة عازلة بين الألمان والسلافيين"، مجمدة كل المطالب الروسية. وما لم يتمّ تحقيقه بالكامل بين عامي 1945 ـ 1946 سوف يتمّ تفعيله بعد انهيار الاتحاد السوفييتي في سنوات التسعينيات، عبر التوسع المستمر لحلف الناتو. السلام الذي كان مغطى بصعوبة أخلى الساحة لحربهم الجديدة "الحرب الباردة" (ص89).


رقابة المؤرخين الغربيين

التاريخ الرسمي الذي يعبّر عن إرادة الفئة المسيطرة، لا يدع مجالا للانزعاج من تكرار أساطيره مرارا، ذلك أنّ السياسة تأمر والمؤرّخ يخضع في أغلب الأحيان، ولا شيء يمنعه من تزوير الحقيقة. في هذه الحالة، فإنّ لكلّ نظام سياسي، لكلّ أمّة، لكلّ حضارة مؤرّخيها الخاصّين الذين يؤلّفون قبل كلّ شيء قصّة ضدّ الآخرين، ويزيّنونهم بكلّ أنواع الانحراف. هؤلاء المؤرّخون الذين غالبا ما يرافقهم قضاة المحاكم، يخبروننا عن أنفسهم وعن بلادهم أكثر ممّا يخبروننا عن قصة الآخرين.

المؤرخ بينفيل /Bainville/ مثلا، الذي وُلد عام 1879، لديه روح الحقد على ألمانيا. كانت العداوة الألمانية الفرنسية تبدو له حتمية وأبدية. لم يكن يرى نهاية لها في المستقبل وكان يعود بها بعيدا في الماضي. بهذا الشكل يخبرنا بينفيل عن الروح الوطنية الفرنسية بين 1900 و1938. في بعض الأحيان، تكون المفاهيم التاريخية نفسها المتّهمة: فالمؤرخ الفرنسي ألبير سوريل (Albert Sorel) مثلا، يصرّ على الأهمية الكبيرة في التمييز بين الحروب "العدائية" والحروب "الدفاعية". هذا التمييز الواضح نسبيا بالنسبة لحرب 1914، حيث الفائدة تكمن في تبرئة فرنسا، ولكنّه يفقد معناه الأساسي عندما تبدو التدخّلات متعددة الأشكال، وتكون في أغلب الأحيان غير مباشرة. من جهة أخرى وبشكل حذر، يمتنع العالم الغربي عن إعطاء أيّ تعريف ملزم عن الاعتداء على القانون الدولي.

يقول الكاتب شارفان: "سابقا، وفيما يتعلّق باليونانيين القدماء، كان المفترض أن ينتموا إلى "إثنيّات غامضة متنقّلة". في وقت لاحق، أبدى بلين /Pline/ وتاسيت /Tacite/ من دون ندم، جهلهم "لهذه الأقوام". لزم الأمر انتظار بروكوب دو سيزاريه /Procope de Cesaree/ في القرن السادس عشر حتّى تتمّ الإشارة إليهم وتسميتهم باسم "السلافيين". سيخصّ البيزنطيون بهذا الاسم في وقت لاحق مجموعة غير معينة تتكلم لغات متقاربة دخلت إلى بلاد البلقان. من المؤكّد أنَّ سلافيي الجنوب اصطدموا بسلالة الكارولنجيين الملكية، إلا أنّ الإمبراطور شارلمان أقام في وجههم عام 805 ـ 808 حاجزا يتعذّر عبوره. بالنسبة للسلافيين الشرقيين، فقد تفرّقوا "في عالم فارغ ومعتم"، قائم على "مساحات شاسعة خارج التاريخ»، و«انتشروا فيه".


الدّولة الروسيّة في كييف، لم تكن سوى قوة في المحيط لا يمكن لها إلّا أن تكون في فلك النطاق البيزنطي. ولم تكن روسيا فاعلا في العلاقات الدّولية حتى عام /1000م.

"بما أنّ أسلاف الروس بقوا "خارج التاريخ"، فقد ظلّوا حتّى العام /1000/ ميلادي خارج "الحضارة": هذه هي على الأقلّ الفكرة المسيطرة على أوروبّا في العصور الوسطى، وعلى بعض علماء التاريخ المعاصرين. ما كان التقدّم ليتمّ إلّا مع توسّع النطاق الثقافي الغربي. سمح التلاقي بين الروس والبيزنطيين (نحو عام 900) بتقدّم ثقافي بالنسبة لهؤلاء المتعلّقين بمقولة "منطقة محرّمة" فعليا. الأمر نفسه مع الاسكندنافيين المُغالى في تقييم دورهم: كانت تقضي إقامتهم في الأراضي السلافية في القرنين التاسع والعاشر، "بتغيير" البُنى المحلية التي يقومون بإدارتها. بعض علماء التاريخ الروس، يرفعون عن قصد قيمة كلّ المساهمات غير الروسية، دون الإقرار ببداهة أنّ كلّ مجتمع يتشكّل عبر التراكمات المتتابعة"(ص151).

مع نشوء الدّولة الروسية (في كييف)، انتشرت الديانة المسيحية الأرثوذوكسية التي "ستربح الجولة على المستوى الثقافي". فرض "المثال البيزنطي" في أوجِه نفسه في كلّ المجالات. لهذا، بالنسبة لعدد من علماء التاريخ، "تمّ تهدئة البربر" لأنهم لم يعودوا "يهدّدون" مراكز الحضارة الغربية. الدّولة الروسيّة في كييف لم تكن سوى قوة في المحيط، لا يمكن لها إلّا أن تكون في فلك النطاق البيزنطي. ولم تكن روسيا فاعلا في العلاقات الدّولية حتى عام /1000م.

غير أنه مع زوال بيزنطة، ربّما كان لدى الروس "الطموح" بالحلول محلّ هذا "القدوة": حيث تفكّر الدّولة الروسية في موسكو باستعادة ما تركته بيزنطة المنحلة يتفسّخ. لهذا يُعتبر أنّ روسيا استبدلت تبعيّتها لبلد آخر بانغلاقها وانكفائها على نفسها. يجعل علماء التاريخ الغربيون من السلطة الروسية، السلطةَ التي "ترفض الأجنبي" وتترك العنان "لكره الشعوب" و"الخصوصية الارتيابية". 

اقرأ أيضا: هل تجاهل الغرب مصالح روسيا وإمكاناتها في لعب دور في العالم الجديد؟