أفكَار

الريسوني: إذا اختلف العلماء في مسألة فالأسلم رأي الأكثرية

أحمد الريسوني: اعتبار الكثرة مرجحا، وأن الصواب مع الكثرة يكون أغلب، لا ينفي إمكانية حصول العكس

أعاد الرئيس السابق للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين العالم المقاصدي المغربي الدكتور أحمد الريسوني طرح السؤال القديم المتجدد: هل الشورى ملزمة للإمام وعليه الانقياد للغالبية أم لا؟ وهو سؤال يتصدر المشهد السياسي العربي والإسلامي في السنوات الأخيرة لا سيما مع ثورات الربيع العربي التي فتحت الباب لمشاركة الإسلاميين في الحكم لأول مرة في تاريخهم المعاصر قبل أن يعودوا لذات مربع المحنة الذي عايشوه على مدى نصف قرن من الزمان..

أهمية سؤال إلزامية الشورى من عدمها للحاكم، لا تخص الإسلاميين ولا ترتبط بهم فحسب، وإنما هو سؤال ملزم للتجارب العربية والإسلامية التي لا تزال تطمح إلى إمكانية نحت كيانها الديمقراطي من مدخل التداول السلمي على المناصب القيادية، وقبل ذلك التوصل إلى صيغ تؤسس للشراكة الحقيقية في تقرير المصير..

"عربي21"، تنشر ورقة الريسوني عن الشورى الملزمة والشورى المعلمة في ثلاثة أجزاء، بالتزامن مع نشرها على صفحة الدكتور الريسوني، تعميقا للحوار.. 


مقام النبوة وخصوصيته

حينما نتحدث عن مشورات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه كان أكثر الناس مشورة، وأنه كان يترك رأيه لرأي جمهور أصحابه وحتى لرأي آحادهم أحيانا، فلا ينبغي أن نغفل عن مقامه ومنزلته، ولا عن صفاته وخصائصه، بل نحتاج أن يقال لنا كما قيل لمن هم خير منا (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ)..

فإذا وجدناه في حالات كثيرة لا يتوقف على الشورى، ولا ينتظر رأي أحد، فلأن هذا هو الأصل فيه، فهو رسول الله قبل كل شيء وفوق كل شيء.

فمعه ما هو أفضل من الشورى، وما هو فوق الشورى وهو الوحي، ثم إنه عبد الله المعصوم عن معصية الله. وكما أنه لا ينطق عن الهوى، فإنه لا يتصرف ولا يرى رأيا عن الهوى. وهو لا يصدر عن مصلحة أو غرض لنفسه، ولا يخضع لطبعه ومزاجه. فهو يفكر ويتصرف بمنتهى النزاهة وغاية الاستقامة، ظاهراً وباطناً.

فلو أنه استشار أصحابه، أو لم يستشرهم أصلا، وأمضى شيئا على خلاف ما رأوه ورغبوا فيه، فكل ذلك له، وليس لأحد من بعده، خليفة كان، أو عالماً أو أميراً…

وأما حين نجده يشاور ويكثر المشاورة، وحين نجده ينزل عن رأيه لرأي أصحابه ـ في ما ليس فيه وحي ـ فهذا يعني أن غيره من الأمراء والرؤساء أولى بذلك بمرات ومرات.

ولو أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يستشير، أو كانت الشورى لا تلزمه ابتداء، أو لا تلزمه نتيجتها انتهاء، لما كان هذا سائغا لأحد غيره. فلا نبي بعده ولا معصوم بعده.

 

اتباع الأكثرية إنما يضمن لنا أن نكون أكثر صوابا، وأقرب إلى الصواب، وأقل خطأ وأبعد عن الخطأ، "لأن الأغلب أن الصواب يكون مع الأكثر” كما يقول أبو الحسين البصري.

 



ومن هنا تسقط بعض التعلقات بحالات ـ هي على كل حال معدودة وخاصة جدا ـ أمضى فيها رسول الله ما أمضاه دون التفات إلى رأي أحد، كتعلقهم بصلح الحديبية، حيث أجراه وأمضاه رغم معارضة الصحابة له واستيائهم الشديد منه. وهو إنما كان وحيا إلاهيا وتدبيرا ربانيا، كما دلت على ذلك أدلة كثيرة:

منها بروك الناقة وقوله صلى الله عليه وسلم “حبسها حابس الفيل".

ومنها حين غضب عمر من الصلح الذي رآه مذلا للمسلمين، قال “فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت، يا رسول الله، ألست نبي الله حقا، قال: بلى. قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى. فقلت: علام نعطي الدنية في ديننا إذا؟ ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبين أعدائنا؟ فقال: إني رسول الله، وهو ناصري، ولست أعصيه".

فواضح أن الأمر كان بأمر الله، وأنه عليه السلام كان ينفذ ما أوحي إليه، ولذلك فهو لم يستشر أصلا في شأن الصلح، لا في مبدئه، ولا في تفاصيله.

ومنها ما صرح به القرآن الكريم نفسه في قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24).

وعلى هذا الأساس، فإن القول بأن “الصلح كان استراتيجية عسكرية لم يشأ الرسول صلى الله عليه وسلم أن يفصح عنها حتى لا تتسرب إلى العدو فيعمل على إفساد خطة المسلمين”، يبقى مجرد تخمين وتخيل. والأنبياء لا يجعلون من عهودهم ومواثيقهم مجرد خدعة عسكرية، يخفونها عن أصحابهم وأعدائهم. نعم، الحرب خدعة. لكن السلم والصلح والعهد والأمان لا خداع فيه. فكيف إذا تم الأمر بوحي من الله تعالى.

3 ـ الترجيح بالأكثرية عند العلماء

يظن بعض الناس أن اعتبار الأكثرية أو الأغلبية، إنما هي فكرة مقتبسة من النظام الديمقراطي الغربي، وأنها دخيلة على الفكر الإسلامي وثقافته الشرعية، وأنا لا أنكر أن للثقافة الديمقراطية الغربية أثرا كبيرا في ترويج هذه الفكرة ودعم الأخذ بها حديثا، ولكني أقول: إن الفكرة ليست جديدة ولا دخيلة على ثقافتنا الشرعية، بل هي قديمة أصيلة فيها. فالترجيح بالكثرة، أو بالأكثرية، قيل به وعُمل به عند علمائنا، في عدد من المجالات، وإن لم يكن من بينها المجال السياسي.

فقد اعتبرت الكثرة مرجحا للروايات عند المحدثين. واعتبرت مرجحا في الاجتهادات الفقهية عند الفقهاء والأصوليين. واعتبرت مرجحا في الاجتهاد القضائي والإثبات القضائي. وقد رأينا من قبل بعض من قالوا بترجيح كثرة الشهود على قلتهم، لو استووا في صفة العدالة. بل إن شهادة "الأكثر من الناس" تكون مرجحا حتى في اختيار من يُستفتى ويُتّبع من العلماء. قال القاضي أبو بكر بن العربي “فرْض على العامي إذا نزلت به نازلة أن يقصد أعلم من في زمانه وبلده فيسأله عن نازلته، فيمتثل فتواه. وعليه الاجتهاد في معرفة أعلم أهل وقته بالبحث عن ذلك، حتى يتصل له الحديث بذلك ويقع عليه الاتفاق من الأكثر من الناس".

وإذا اختلفت أقوال العلماء في مسألة من المسائل، فالأرجح والأسلم هو اتباع ما عليه أكثرهم. وينطبق هذا ابتداء من الصحابة رضي الله عنهم. قال أبو إسحاق الشيرازي “وإذا كان على أحد القولين أكثر الصحابة، وعلى الآخر الأقل، قُدّم ما عليه الأكثر، لقوله صلى الله عليه وسلم “عليكم بالسواد الأعظم". وقال ابن القيم "فإن كان الأربعة ـ يقصد الخلفاء الراشدين ـ في شق، فلا شك أنه صواب، وإن كان أكثرهم في شق، فالصواب فيه أغلب".

"وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال: "استشارني عمر في أمهات الأولاد (يعني الإماء)، فأجمعت أنا وهو على عتقهم، ثم رأيت بعد أن أُرقَّهم. فقال له عبيدة (هو عبيدة السلماني، تابعي): رأي ذَوَيْ عدل أحب إلينا من رأي عدل واحد".

وفي مسألة أخرى مماثلة قيل له: "لَأمْرٌ جامعتَ عليه أمير المؤمنين، و تركت رأيك أحب إلينا من أمر تفردت به ، فضحك".

فقول الأكثر، أو الأكثرية من العلماء، أو من أهل الحل والعقد، أو من عامة الناس فيما يرجع إليهم، يعتبر حجة ترجيحية عملية، وليس بالضرورة دليلا قطعيا ودائما على الحق والصواب. فاتباع الأكثرية إنما يضمن لنا أن نكون أكثر صوابا، وأقرب إلى الصواب، وأقل خطأ وأبعد عن الخطأ، "لأن الأغلب أن الصواب يكون مع الأكثر” كما يقول أبو الحسين البصري. وكما يقول شمس الدين الأصفهاني: “ويبعد أن يكون قول الأقل راجحا، إذ الغالب أن متمسك الواحد المخالف للجمع العظيم يكون مرجوحا، لأن قوله عليه السلام (عليكم بالسواد الأعظم)، يدل على رجحان قول الأكثر، وإذا كان راجحا وجب العمل به.

ومن هنا فإن الأخذ بمبدأ الأكثرية، واعتبار الكثرة مرجحا، وأن الصواب مع الكثرة يكون أغلب، لا ينفي إمكانية حصول العكس، وهو أن تكون الأكثرية على خطإ، والأقلية ـ وحتى الفرد الواحد ـ على صواب، ولكن هذا قليل أو نادر، وخاصة في القضايا العملية الواقعية، والنادر لا حكم له، إذ الأحكام والتصرفات الشرعية تبنى وتُمضَى على الغالب.

 

أهل العلم والرأي والخبرة ـ وكذلك عموم الناس فيما يرجع إليهم، وما يتعلق بأحوالهم ومصالحهم ـ هم الأدلاء على الحق والصواب، أو على ما هو أكثر صوابا وأهدى سبيلا، أو هم الأدلاء على ما يقتضيه الكتاب والسنة وما فيهما من مقاصد وقواعد، أو هم المقياس لما يمكن وما لا يمكن، ولما يتحمل وما لا يتحمل.

 



كما أن القول بإمكانية الصواب عند الأقلية، أو عند الفرد الواحد، في مقابل رأي الأكثرية، يبقى في الغالب مجرد احتمال نظري، لا يمكن إنكاره، ولكن أيضا لا يمكن الجزم به أو التعويل عليه. فنحن في حالة الاختلاف الشوري، أو غير الشوري، نجد أنفسنا أمام رأي الأغلبية، معززا بأدلته وحججه، ورأي الأقلية المخالفة أو الواحد المخالف، معززا بأدلته وحججه. فالقول بأن الحق أحق أن يتبع، ولو كان رأي فرد واحد، وأن المرجع والمرجح هو الدليل لا غير، وأن الأمير في هذه الحالة يجب أن يتبع الدليل، “فأي الآراء كان أشبه بكتاب الله وسنة رسوله عمل به"..، هذا كلام جميل ومعقول من الناحية النظرية والمبدئية. ولكن هذا إنما يستقيم إذا فرضنا أن المسألة واضحة، أو قد اتضحت، وليس فيها احتمالات متعددة، ووجوه مختلفة، أو إذا فرضنا أن الرأي المتروك ليس له شبه بالكتاب والسنة، وليس لأهله علم بهما…

أما حين يكون الناس من طينة واحدة، ويكونون جميعا ممن (لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا)، وحين يكون لكل ذوي رأي اجتهادهم ونظرهم، وأدلتهم وحججهم، وكل طرف يرى أن موقفه هو الأشبه بالكتاب والسنة، وهو الأحفظ لمصلحة الإسلام والمسلمين في تلك النازلة…، فلا يجدينا في هذه الحالة أن نقول: نتبع الحق مع من كان، سواء مع الأكثرية، أو الأقلية، أو مع الواحد. فلو عرف هذا "الحق" بشكل واضح لا غبار عليه، لما بقيت أقلية ولا أكثرية، كما مضى في مسألة الغُسل من التقاء الخِتانين. 

فلا يبقى أمامنا عمليا إلا أن نتبع "الحق" الذي مع الأكثرية، أو "الحق" الذي مع الأقلية.

وأما ما يقوله ابن حزم ومن على شاكلته "ولم يأمر الله تعالى بالرد إلى الأكثر، والشذوذ هو خلاف الحق، ولو أنهم أهل الأرض لا واحد". فهذه مجرد مكابرة وإغراق في المنطق الصوري. ولله در الإمام الشاطبي الذي ختم حياته العلمية بهذه العبارة المضيئة المتوازنة "إذا ثبت أن الحق هو المعتبر دون الرجال، فالحق أيضا لا يعرف دون وسائطهم، بل بهم يتوصل إليه، وهم الأدلاء على طريقه".

فأهل العلم والرأي والخبرة ـ وكذلك عموم الناس فيما يرجع إليهم، وما يتعلق بأحوالهم ومصالحهم ـ هم الأدلاء على الحق والصواب، أو على ما هو أكثر صوابا وأهدى سبيلا، أو هم الأدلاء على ما يقتضيه الكتاب والسنة وما فيهما من مقاصد وقواعد، أو هم المقياس لما يمكن وما لا يمكن، ولما يتحمل وما لا يتحمل.

فتكاثرهم وزيادة عددهم على رأي من الآراء، ليس مجرد أرقام عمياء صماء، بل هو زيادة نظر وزيادة دليل وزيادة رجحان. فالأصل أن الحق والصواب معهم، دائما أو غالبا. وخلاف هذا يبقى واردا، لكن على سبيل الاستثناء والاحتمال لا غير. وكما قال ابن بطال في شرحه لبض أحاديث البخاري "وإنما أنكر القياس النّظّام وطائفةٌ من المعتزلة، واقتدى بهم ممن ينسب إلى الفقه داود بن علي. والجماعة هم الحجة، ولا يلتفت إلى من شذ عنها".

والمراد بالجماعة هنا جماعة العلماء، أي جمهورهم وأكثريتهم.

 

إقرأ أيضا: ماذا قال القرآن في الشورى المعلمة والملزمة؟ رأي الريسوني

 

إقرأ أيضا: أحمد الريسوني: التطبيقات الشورية النبوية قوية في ثبوتها