مهّد عبد الفتاح
البرهان، القائد العام للجيش
السوداني، للانقلاب الذي نفذه في 25 تشرين الأول/ أكتوبر من العام الماضي، لينصب نفسه حاكما مطلق الصلاحيات، بأن طاف بمعسكرات الجيش ليردد أن العسكريين أوصياء على البلاد، ربما لأنهم حكموه لاثنتين وخمسين سنة من إجمالي سنوات استقلاله الست والستين. ولا يعني البرهان في شيء أن الحكومات العسكرية المتعاقبة، هي التي وضعت السودان على رأس قائمة الدول الفقيرة الغارقة في الديون والفساد والمفككة الأوصال.
ولعل الخطيئة التي لن يغفرها التاريخ للبرهان، ليس فقط منح القوات النظامية الحصانة من المساءلة، كي تمارس العنف المفرط ضد معارضي حكمه، وعزل السودان مجددا عن المجتمع الدولي، ورهن إرادة البلاد لقوى خارجية، بل سعيه الدؤوب لتحويل القوات المسلحة إلى حزب سياسي "من حقه الفوز بالسلطة كاملة أو بالائتلاف مع كيانات مدنية".
وفي سبيل ذلك يحرص البرهان على إقناع العسكر بأن المدنيين عموما خصوم لهم يضمرون لهم الكيد والازدراء. ولعله نجح كثيرا في هذا المسعى، بدليل أن جنوده يواجهون مظاهرات معارضيه بكفاءة قتالية عالية كتلك التي تدربوا عليها في مواجهة أعداء مفترضين. وللتأكيد على أنه يعوّل كثيرا على العسكر، قام البرهان قبل أيام قليلة -ضربة لازب- بترقية خمسة من الجنرالات المتقاعدين إلى سفراء، عرفانا بجمائلهم عليه، لأنهم توزعوا على قنوات التلفزة للترويج لانقلابه، علما بأنه لا قانون ولا دستور يعطيه حق اختيار السفراء أو إقالتهم.
البرهان بات مدركا أن السند العسكري وحده لا يكفي لتحقيق حلمه بالاستدامة على كرسي السلطة العلوي، ويدرك أيضا أن القوى المدنية التي استقطبها لتبارك انقلابه، بلا وزن جماهيري حقيقي ومتقلبة الولاءات
ورغم أنه مطمئن إلى أنه نجح في جعل القوات المسلحة تصطف خلف قيادته، إلا أن البرهان بات مدركا أن السند العسكري وحده لا يكفي لتحقيق حلمه بالاستدامة على كرسي السلطة العلوي، ويدرك أيضا أن القوى المدنية التي استقطبها لتبارك انقلابه، بلا وزن جماهيري حقيقي ومتقلبة الولاءات. وهكذا لم يجد بُدَّاً من ارتداء جلباب
القبيلة، فتوجه خلال عطلة عيد الأضحى إلى قومه وعشيره في ولاية نهر النيل، وجمع نفرا منهم في خيمة كبيرة ووقف أمامهم خطيبا بنفس لغة الشحن العاطفي التي يستخدمها عند مخاطبة الجند.
قال البرهان لأهله: نحن في بلدنا (يقصد منطقتنا) قوة لا يستهان بها ولا ننقاد للآخرين.. تاريخ السودان كله منسوب إلينا.. مكاننا دائما في القيادة والريادة.. علينا أن نوحِّد كلمتنا ونقوي لُحمتنا لحفظ حقوقنا (نا الجماعة هنا لقومه).. أبناء الولاية مستهدفون من الآخرين، ويجب أن تكون هناك حدود بيننا وبين هؤلاء الآخرين (سكان الولايات المجاورة وليست الولايات المتحدة مثلا).. كل خيرات السودان تأتي من ولايتنا: الذهب والرجال الأشداء المقاتلون.. يجب ان يكون صوتنا مسموعا ولا نسمح للآخرين بالتكلم نيابة عنا.. الآخرون لا يشبهوننا.
لجأ البرهان إلى القبيلة كي تسنده، لفشله في تشكيل حاضنة مدنية وطنية لحكمه، وهو في هذا يجاري نائبه في رئاسة مجلس السيادة، ف. ا. (فريق افتراضي) محمد حمدان دقلو (حميدتي)، الذي توجه إلى ديار قومه في إقليم دارفور
لجأ البرهان إلى القبيلة كي تسنده، لفشله في تشكيل حاضنة مدنية وطنية لحكمه، وهو في هذا يجاري نائبه في رئاسة مجلس السيادة، ف. ا. (فريق افتراضي) محمد حمدان دقلو (
حميدتي)، الذي توجه إلى ديار قومه في إقليم دارفور في أواخر حزيران/ يونيو المنصرم وأعلن أنه سيقيم بينهم لثلاثة أشهر لـ"حل مشاكلهم وإقرار السلام في الإقليم". وطوال الأسبوعين الماضيين وحميدتي يتكلم في الفاضي والمليان لتسويق نفسه كوصي على أهل الإقليم، لينسوا ما عانوه من ويلات على أيدي قواته (الدعم السريع) على مدى سنوات طوال.
ولعل حميدتي أدرك أن استخدام الجزرة (الرشاوى) بسخاء، لا يكفي لشراء الولاءات والذمم، فعمد في جولته الأخيرة في دارفور إلى تنظيم عرض عسكري ضخم لقواته في الإقليم، وكانت المفاجأة الصادمة لكل مشفق على مآلات الأمور في السودان أن حميدتي أعلن أن هناك "قوات مدرعات" خاصة بالدعم السريع، وأن قائد قواته تلك صار قائد قوات المدرعات في الجيش الوطني. وعنصر المفاجأة هنا هو أن دمج قوات الدعم السريع في القوات المسلحة النظامية ظل مطلبا مدنيا وعسكريا طوال السنوات الثلاث الأخيرة، فإذا بحميدتي يقول -بمباركة البرهان ولا شك- إن ما يحدث هو دمج الجيش الوطني في قوات الدعم السريع.
كان العرض العسكري الذي أقامه حميدتي في منطقة "زوق" في دارفور، التي يقول أهلها إنها محتلة من قبل جيش آل دقلو (عائلة حميدتي) منذ عام 2016، وبمباركة من الرئيس المخلوع عمر البشير، وأن حميدتي استجلب أقاربه من دول الجوار في تشاد والنيجر، وقام بتوطينهم في المنطقة، بل ونصب أحد أعمامه "عمدة" عليها في عام 2017، ضمن مخطط إحلال الجنجويد في مناطق "الزُرْقة" (أي السود)، باعتبار ان أهل شمال وغرب دارفور الأصليين (الزرقة) هم من يحملون السلاح ضد الدولة.
من حيث لا يقصد وربما من حيث لا يدري أكد بكلامه أمام أفراد من قبيلته، أنه لا يؤتمن على أمر الوطن طالما أنه يرى أنهم وحدهم (وهو على رأسهم) يصلحون للقيادة والريادة، وينبغي أن تكون كلمتهم هي الأعلى بين أقوام السودان المختلفين، وأكد بذلك أنه قاصر فكريا وسياسيا
وعودا إلى البرهان، نقول إنه ومن حيث لا يقصد وربما من حيث لا يدري أكد بكلامه أمام أفراد من قبيلته، أنه لا يؤتمن على أمر الوطن طالما أنه يرى أنهم وحدهم (وهو على رأسهم) يصلحون للقيادة والريادة، وينبغي أن تكون كلمتهم هي الأعلى بين
أقوام السودان المختلفين، وأكد بذلك أنه قاصر فكريا وسياسيا، وأن دعاواه بأنه وعسكره وعشيره أوصياء على الوطن والمواطن تقوم على سيقان من رمل شديد النعومة.
هل قام الشاعر اللبناني فؤاد جرداق من قبره سودانيا ورأى حال سودان البرهان وأنشد:
وطن تطير من الأسى أرواحه/ وتثور من جور الطغاة نفوسُهُ/ ربضت على الصبر الجميل أسوده/ وتحكمت بالعاقلين تيوسه/ خانت حماه رجاله وهي التي/ أمست وغربان الخراب تدوسه/ وزراؤه أوزاره ورجاله/ أصلاله ورئيسه مرؤوسه/ عبثت به أيدي الجناة كما به/ دبت جراثيم الخنوع وسوسه..