أفكَار

وزير مغربي سابق يصرخ: وباء فيروسي وفساد سياسي.. فوارباه!

بنسالم حميش يحذّر الحكام العرب من مخاطر الدفع ببلدانهم إلى مزيد من التبعية والتخلف (فيسبوك)

بادئ ذي بدءٍ، هذا تيمور لنك المغولي، أحد كبار الغزاة في العصر الوسيط، يعترف في مذكراته: "لقد عملتُ على الإمساك عن الابتزاز والقهر، إذ إني لا أجهل أن هذه جرائم تُحدث المجاعات وشتى الأهوال التي تحصد أجناسا كاملة". ويقر ابن خلدون أيضا في غير ما موضع: "وأما كثرة الموتان، فلها أسباب من كثرة المجاعات أو كثرة الفتن لاختلال الدولة، فيكثر الهرج والقتل أو وقوع الوباء".

عطفا على ذلك وسواه: في امتحان ترقية البلاد، ها نحن أولاء نرى أرباب السُلَطِ كلها والمتحكمين في الأرواح والرقاب، يحصدون وطنيا وحتى خارجيا النقط الموجبةَ للسقوط.. الساقطونَ الفاشلونَ العاجزونَ القيّمونَ على هندسةِ البؤسِ والشقاء؛ الدافعونَ بالبلادِ والعباد إلى فوهات الهاوية، نقول لهم جهرا وبلغة حبنا لوطننا: لا وألفُ لا ولا!

الحقُّ أننا تعبنا من وجوههم ومن عشرتهم؛ الحقُّ أننا ننشدُ المغايرةَ والتغيير ونتوقُ إلى التنفسِ خارجَ عاهاتهم ونتاناتهم؛ لأننا ما دمنا محاصرين بسيوفهم وتجلياتِ جبروتهم وتعلقاتهم الغرائيةِ الجنونية بالكراسي والمواقع، فإنَّ الانعتاق في ظلهم دونه حقولٌ ملغومة وعقبات شائكةٌ كأداء وأدغال.

انظروا إليهم هؤلاء الذين كما يتنفسون يستهلكون ويهلكون، ويستحوذون على خيرات هذي الأرض من مقالع الرمال والصيد في أعالي البحار، ومن حقولِ كروم فخمور يصدِّرونها إلى النصارى وبعضها يخصون به الاستهلاك المحلي؛ إنهم إذن يستحوذون على تلكم الخيرات ويُجْرونَ محاصيلها وقطوفها في بطونهم وعافيتهم، ويصرفونها عقاراتٍ وأملاكا باذخة وأرصدةً ضخمةً حُبلى بأخرى، ويجنونَ بها جشعين المتعَ والملذاتِ الوافرةَ السائبة، بل ويريدون بها، هم الأثرياء جدّا جدّا، أن يتسيّدوا ويسودوا ويسوسوا، مشترين الذمم والمقاعدَ السُّلطاتية، كما يريدون حجبَ الشمس بالغرابيل والطعنَ في الأنوار وفي صفاءِ المرايا وحجيةِ الوقائع.

لو كانت عدالةُ الحياةِ جارية، لسعينا إلى مقاضاتهم بتهمة المس بحرمةِ الإنسان وإلحاقِ الأضرار الفادحة بصحتهِ وعافيتهِ ومناعته، وبالبيئةِ والهواء وتسفيه المبادئ والمفاهيم العلية وأعزِّ المنى والأحلام.

 

إلى ضحايا كارثة ميناء بيروت وإلى حراك الربيع العربي الفينيق.. وإلى روح الشهيدة الطاهرة شيرين أبو عاقلة.

 



انظروا إلى سماسرة السراب والمترفينَ حتى التخمة والمفسدين في الأرض كيف يخدعونَ الناس، مؤدين أغلظَ الأيمان، آخذينَ أوثقَ العهود بــ"الطعام اللي تشاركناه"، ثم تراهم في محافل التشدق بالكلامِ واللغو يمارسونَ في حقِّ القيّم ومشتقاتها استهتارا عارما وشتى صنوف التبخيسِ والإنكار. النّهبُ عندهم مهنة، والرُّشى شهوة، والاحتكارُ سُنّة، والريعُ مذهبٌ ومِلّة.

باسمكم، يا فقراء الأرض ومعذبيها ومرضاها، وأمام شواهدِ السَّلبِ وصيغهِ عند أباطرة الفساد السياسي والخلقي وناشري بؤر العوز والخصاصات، ها نحن نرفع عن تلكم البؤر الأغطية بالتوصيف والمعاينات في مرافقِ إدارتهم وتدبيرهم، وفي عجزهم العضال عن حبِّ هذي البلاد وإنقاذ أهاليها من الإملاقِ والبؤس والأمراض.

وقفنا على صورٍ كثيرة من بلاغةِ يأسِ الناس، فهتفنا لأولئك جهارا بالأصوات الجياشةِ الملتفَّةِ المتضافرة: أكلُّ هذا الشر تسلطونه على المستضعفين والمعدمين! أبكل هذي القنابلِ المسيلة للدموع، وحتى للدماء أحيانا، ترمون همومهم وجراحاتهم، قنابل التحقير والترك ِوالإهمال!

ما هذا التكالبُ على تأجيجِ شعائرِ التلاشي والتصدعات! ما هذي الجائحةُ الشديدةُ الوطءِ والفتكِ والعدوى والانتشار! ما هذا الذُّعرُ الكاسح ُالمستبدُّ بالوجوه والأذهان! ما هذا الموت المروِّعُ العرمرم المتخطِّفُ للآدميين فرادى وزرافات، ليُدفنوا بالرافعات والجرافات في مقابرَ جماعية لا تحيط بشساعتها الأبصار! ما هذا الضمور الممتدُّ، كقدرٍ ماحق، على صحة الأرض والهواء وعلى عافيةِ الناس وأمنهم! 

أحياةٌ هاته التي نحيا أم كوابيسُ مرعبة؟

قسما ببسمةِ الرضيع، وبما تبقّى من دفءٍ في أعينِ الأحبة، لنصمدنَّ معا كيما يضربنا الوجودُ مجددا بأجنحتهِ، ويصيرُ لدنيانا طعمٌ ونضارةٌ ومعنى، وتعودُ للصحة سيادتُها محفوفةً بالفرجِ والفرحِ العميمين، وبأمارتِ التحررِ الفائق والانعتاق البهيِّ الراتق.

***

مضاعفات

من باب أن الشيء بالشيء يذكر، وأن الضغطَ يولِّد الانفجار في أمكنةٍ وأزمنةٍ متقاربة أو متباعدة، فلنتذكر حِراكات الربيع العربي الذي ستكون لها عاجلا أو آجلا ما بعدها، ومنها حراكُ شباب 20 فبراير 2011 في المغرب، خرجوا حشودا مكتسحين الشوارع والساحات، ذكورا وإناثا حاسرات ومحجبات، مردّدين بالصياح والهتافات بالأبواق شعاراتٍ تنديدية وأخرى مطلبية، ومما ترسَّخَ في الأذهان والذاكرات وتناقلته بعضُ الصحفِ والمواقع هذه العينات:

هذي مسيرة سلمية والمبادئ حقوقية، هذي خَرْجة سلمية وقيّمْنا تحريرية، هذي تجمعات سلمية وطَريقنا هيَ هيَ، هذي انتفاضة إنذارية والمطالب حياتية، هذي وقفات سلمية والحلول ضرورية. 

ثم علت أصواتٌ أخرى بقوةٍ تجأر:

لا لكنْ ولا حتّى الصحة ولا بدَّ.. لا لكنْ ولا حتّى العدالة ولا بدَّ.. لا لكنْ ولا حتّى الشفاء ولا بدَّ.. لا لكنْ ولا حتّى النماء ولا بدَّ.. لا لكنْ ولا حتّى الشغل ولا بدَّ.. الحرَكة سلمية والحِراك بلا عراك.. خيراتْ البلاد انْهَبْتوها وبالريعْ انْهكتوها.. على فياقْنا تْحاصرونا واللّي بْغضنا يْضربو ضونا.. الكرامه دابا دابا أوْ نهايتكم بالما والشطابا.. الفسادْ الفساد هوَ عَدُوّْ هذْ البلاد.. شَعْشَعْ الحقّْ والطريق بانْ.. أتْحركو يا الغافلين يا الدايخين من الشبان.. وصَرْخو لهم: بالوعودْ اتْخمتونا وعلى الـﮕـصّ ارْميتونا.. لا عمل ولا أمل احْكمتو علينا بالزوال.. مامْفرقينْش مامْفكِّنش/ وعلى الظلمْ ما راضينْيش.. الإصلاح الإصلاح هو سبيل الفلاح ومن دونو لا نجاح.

***

ثم جلجلت أصوات بلغت معها القلوبُ الحناجر: إلهنا واحد/ وطننا واحد/ علَمنا واحد/ لساننا واحد/ جهادنا واحد/ مصيرنا واحد// ما تَرحلو يا أشرار ولا تفلتو منْ العقاب بل زهقوا مع الزاهقين وربّنا قال ﴿لقد جاءَ الحقُّ وزهقَ الباطل. إن الباطلَ كان زهوقا﴾. فازهقو من إقاماتكم المحصنة إلى المحاكم فالسجون.

***

وتناقلت وسائط الإعلام مقطعا لمناضل خطيب جاء فيه: قاطعوا الفكر المتحجر والمتشبث بالجمود على الموجود وبالركون إلى الثُّبوت وتركِ دار لقمان على حالها وعلاتها. قاطعوا منَّاعي التغيير المنقذِ والخلاق، منَّاعيه بأسلحة المالِ والجاهِ والتسلطِ الكثيف. قاطعوا هؤلاء وأولئك بالعزم الثاقب والحزمِ الشديد وبلا وهْنٍ ولا هوادة.

قاطعوا قوما أبطرهم البذخُ حتى أمسوا للفواحش والمنكرات ما ظهر منها وما بطن عبابيد. وكلهم تثقفوا وتفننوا في تهريب الأموال إلى مناطق الأوفشورينغ والأبناك الحرة المذرَّة للفوائد الفائقة، كما أنهم برعوا في تبييض أموال أخرى وإعفائها من الضرائب المستحقة بالتصريحات البهلوانية والرشاوى اللامرئية في الأماكن السرية، أو تحت ظل الموائد والطاولات الخصوصية.

 

في امتحان ترقية البلاد، ها نحن أولاء نرى أرباب السلطِ كلها والمتحكمين في الأرواح والرقاب، يحصدون وطنيا وحتى خارجيا النقط الموجبةَ للسقوط.. الساقطونَ الفاشلونَ العاجزونَ القيّمونَ على هندسةِ البؤسِ والشقاء؛ الدافعونَ بالبلادِ والعباد إلى فوهات الهاوية، نقول لهم جهرا وبلغة حبنا لوطننا: لا وألفُ لا ولا!

 



ذاك ذاك! وبدا لمفكر حكيم أن يعلق مسجلا، على ما سمعه وما رآه فقال:

إذا، يا أخي، استيقنتَ أن السياسة في بلادك مهلكة بل وباء يعرّضُ صحتك العضوية أو العقلية، أو هما معا، لمخاطرِ الإعاقة والتلف، فعِفْتَها ونفرتَ منها، حالئذٍ ابحثْ لك عن بدائلها الأرحبَ فضاء، والأهنأَ للنفس، والأريحَ للذهن، والأغنى معنى ودلالة؛ هذا وسواه من الفضائلِ واللطائف لا تجده في السياسة الجارية ولا في عالم الدسائس والفساد، بل في حقول المعرفة والتحصيل والإبداع، حقولِ الإنسانيات وشتى ضروب الفنون والآداب.. فارْعَ حماها، وأكثرْ من ارتيادها واللياذ بها تنميةً لمواهبك واستعداداتك، ودفعا بها إلى تجلياتها وأقاصيها. وإذا ما جاءك منها الإثمار والعطاء، فإنك إذن لمن الفرحين المقبولين، ومِنْ إذا سعدوا أسعدوا، وإذا اغتنوا وهبوا وأحسنوا، وإذا أحبوا أوفوا وأخلصوا، وفي تشييد صروح الحياة المجوَّدةِ النضرة أسهموا وأفلحوا.

*وزير مغربي سابق