أفكَار

فوضى دينية تُظهر هشاشة المرجعيات وانكماش دور العلماء

مختصون يناقشون الجدل الذي نشأ على خلفية الترحم على الإعلامية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة

عجت وسائل التواصل الاجتماعي بعد اغتيال الإعلامية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة، بفائض من القول الديني، إذ بات غالب رواد تلك المواقع يتقمصون شخصية المفتي والفقيه والمفسر، وفي غمرة تلك المعمعة غابت المرجعيات الدينية المحترمة، خاصة دور الفتوى، ومؤسسات البحث الفقهي.

وكان من الطبيعي أن تتصدى تلك المؤسسات الدينية لبيان ما يجب بيانه من الأحكام الشرعية المتنازع عليها بين رواد تلك المواقع، فهي الجهات الرسمية المخولة بهذا الدور، وهي المنوط بها واجب البيان والتوجيه والإرشاد، وإصدار الفتاوى الدينية، ومناقشة الأقوال المتداولة، وتوضيح المقبول منها والمردود. 

لكن صمت تلك المؤسسات وغيابها عن تبيان الأحكام الفقهية المطلوبة، وعدم مسارعتها لإصدار الفتاوى فيما تنازع حوله الناس، كشف عن هشاشة تلك المرجعيات، وأكدّ ما يقال دائما عن تهاوي مكانتها، وفقدان الثقة بها، واضمحلال دورها، وهو ما يتوافق مع طبيعة عملها الوظيفي في ظل الدولة الحديثة التي وضعت لها ولغيرها سقوفا لا يمكن تجاوزها بحال، وفق مراقبين. 

ومن جهة أخرى فإن ما يثير القلق، ويؤجج الهواجس، تلك الفوضى الفقهية العارمة، والسيولة الدينية المقلقة، التي تجتاح الفضاء العام، وهو ما يشي بأن عامة الناس فقدت الثقة بمرجعياتها الدينية، مؤسسات فتوى وفقهاء وعلماء، وبات الإفتاء الديني مشاعا للجميع بلا استثناء، ما يثير أسئلة إشكالية قلقة حول الأسباب التي أوصلت الأمة إلى هذه الحالة المَرَضية المقلقة، وكيف يمكن الخروج من هذه الأزمات الخانقة. 

في هذا الإطار أرجع الأكاديمي والباحث المصري، المتخصص في الفقه السياسي السني والشيعي، الدكتور محمد الصياد تلك الفوضى الدينية العارمة إلى جملة أسباب من أبرزها: طبيعة العصر بظواهره الجديدة كالحداثة والإنترنت، والاتصالات المفتوحة، وما أتاحه من سهولة الحصول على المعلومات، وتوفير منصات مجانية للتعبير عن الرأي، والمشاركة في القول، إضافة إلى الصراع القائم بين النماذج الموجودة وقراءاتها المختلفة، وهو ما انعكس بصورة سلبية على عامة الناس. 

 

                               محمد الصياد.. باحث مصري

وأضاف أنه "من المعلوم أن العلماء حينما يختلفون فيما بينهم فإنهم يحتكمون إلى قواعد وأصول ومنهجيات في النظر والاستدلال، وتبقى اختلافاتهم ومناقشاتهم مؤطرة بتلك الأطر، لكن الاختلافات حينما تنتقل إلى مستوى العامة فإنها في غالب الأحوال تفتقر إلى الاستدلالات المنضبطة، وتغيب عنها القواعد والأصول الحاكمة لعملية الفهم والاستنباط، ما ينتج عنه فوضى دينية مقلقة بحق". 

ولفت الصياد في حواره مع "عربي21" إلى ضرورة العناية بـ"الاجتهاد الجماعي المؤسساتي، خاصة في قضايا النوازل، حتى يكون الاجتهاد الفقهي في ما يخص النوازل والقضايا المستجدة، أعمق نظرا، وأكثر انضباطا، بعد أن يستوفي متطلبات النظر والبحث في الجانبين الواقعي والفقهي". 

ونبه إلى أن "المناهج الفقهية السائدة في غالبها تدور في إطار الفقه المذهبي التقليدي، وعامة من يدرسها ويتخرج من مدارسها يعتني بدراسة المسائل المبحوثة والمقررة فيها، من غير أن تمكنه من فهم وهضم منهجيات التأصيل المنتجة لتلك الأحكام، ما يتولد عنه القصور في إنتاج فقه يشتبك مع التحديات المعاصرة، ويتعاطى مع هموم الواقع، ويعالج مشاكل الدولة الحديثة". 

وعن المخرج الممكن لمعالجة هذه الفوضى الدينية العارمة، ذكر الأكاديمي المصري الصياد أن حجة الإسلام أبا حامد الغزالي رصد في زمانه صورا من الفوضى الدينية وحذر منها، في مواضع من كتبه كباب العلم في إحياء علوم الدين، والقسطاس المستقيم.. وعلى العلماء القيام بواجب التعليم والبيان والإرشاد، وهو ما يساعد في كبح جماع تلك الفوضى، ويحد من انتشارها وتوسعها". 

من جهته رأى الأكاديمي والباحث المغربي في الفكر الإسلامي الدكتور حفيظ هروس، أن "الثورة الرقمية والتواصلية الهائلة التي نعيشها اليوم، بما في ذلك مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة، قد أتاحت لعموم الناس إمكانية النفوذ إلى المنتج الديني المختلف، بحيث لم يعد بإمكان توجه ديني محدد، أو مؤسسة علمائية محددة أن تفرض رأيها على الناس". 

 

                          حفيظ هروس.. باحث مغربي

وأضاف لـ"عربي21": ".. مما جعل المجال الديني بمثابة سوق مفتوحة، يمكننا أن نسميها بالسوق الدينية، تخضع فيها القيم الدينية غالبا لقيم السوق، فلم يعد مهما في ما يكتبه الناس اليوم، وفي ما يتداولونه على وسائط التواصل الاجتماعي أن يكون صحيحا، أو موثقا، أو قوي الحجة، بقدر ما يخضع لأساليب العرض والطلب والتسويق وغيرها من قيم السوق" على حد قوله. 

وتابع: "وكذلك فإن حرية القول والتعبير التي أتاحتها مواقع التواصل الاجتماعي بكل سهولة ويسر للجميع، عززت حرية أن يقول من يشاء ما يشاء، ولعل من أهم أسباب ذلك غياب الرقابة الدينية في وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة، إذ لم يعد بإمكان الدول التحكم بالمحتوى المعرفي على شبكات التواصل الاجتماعي، فما بالنا بالعلماء سواء أكانوا أفرادا أم مؤسسات؟".

وعن مدى تأثير أداء المؤسسات الدينية، وأداء العلماء والفقهاء في تفشي حالة الفوضى الدينية، لفت هروس إلى أن "انكماش دور المؤسسات العلمية التقليدية، وحتى أيضا الفقهاء المستقلين، كان له تأثير ملحوظ في تلك الفوضى، وذلك يرجع إما إلى عدم قدرتهم على مواكبة التطورات الهائلة التي يشهدها العصر الرقمي، أو إلى تقييد دور العلماء، خصوصا في المؤسسات الرسمية التي باتت تتماهى تماما مع الموقف الرسمي في دولها، ما جعلها تفقد كثيرا من مصداقيتها". 

وقال: "على الرغم من الايجابيات التي أتاحتها الثورة الرقمية والتواصلية لسهولة النفاذ إلى القول الديني بمختلف صوره وأشكاله، بعيدا عن كل ألوان المحاصرة والتضييق، فإن ثمة سلبيات صاحبت ذلك، لعل من أبرزها وأخطرها عدم قدرة العامة من الناس وهم يصولون ويجولون على مواقع التواصل الاجتماعي، التمييز بين الصواب والخطأ في الآراء الدينية، بل غالبا ما تجذبهم وتتحكم فيهم الآراء الأكثر التزاما بقيم السوق كما ذكرت سابقا". 

ولاحظ هروس أن "الآراء الأكثر انتشارا في أوساط العامة هي إما المتشددة أو المتفلتة، وتضيع في وسط ذلك الزحام، الآراء الرصينة، والأقوال المسنودة بالأدلة، وكذلك فإن من السلبيات فقدان فقه الأولويات والموازنات بين المصالح والمفاسد، والتي ربما لا يتقنها إلا كبار الفقهاء". 

وحتى تعود للقول الديني، المؤسساتي والعلمائي مكانته وهيبته واحترامه، فالمطلوب وفقا للأكاديمي المغربي هروس "مواكبة العلماء، للتطورات التي يشهدها العالم اليوم، على صعيد الثورة الرقمية والتواصلية، حتى يزاحموا ما هو مطروح في السوق الدينية، كذلك فإن العلماء مطالبون بالاهتمام بقضايا الأمة، وهموم الشعوب، حتى يكونوا قريبين من الناس، ويعيشوا همومهم، ومن الأهمية بمكان استقلال العلماء والفقهاء، والابتعاد عن التماهي مع السياسات والمواقف الرسمية، حتى لا يفقدوا ثقة الناس بهم". 

بدوره نبَّه الباحث والأكاديمي الأزهري، الدكتور أحمد الدمنهوري إلى أنه "كان يمكن حسم الكثير من المعارك، وتقليل الثرثرة، وعدم حرق الكثير من الطاقة، لو كان للدين هيبته، وللعالم قدره.. لكن لما سقطت هيبة الدين، فقد أصبح الدين مجالا وظيفيا، وحصة في المقرر، وحديث الروح وسط أحاديث النفس والشهوات، وحضورا باهتا على استحياء في حياتنا المعاصرة التي يطغى عليها النموذج الدنيوي الدجالي" وفق عبارته. 

 

                            أحمد الدمنهوري.. باحث مصري في الأزهر

وتابع في منشور عبر صفحته على الفيسبوك، اطلعت "عربي21" عليه بالقول: "ثم لما سقطت هيبة عالم الشريعة التقي النقي الخفي، الذي يمتلئ كرامة وعزة وعلما وتقوى، الذي لا يتدنى ولا يطلب دنيا.. وصار المسلم إلى حال لم يرَ في حياته عالما يملأ قلبه هيبة ومحبة واحتراما وقبولا، يرغم شيطانه بكلمة إذا زاغ، ويرده عن غوايته بنظرة إذا ضل..". 

وواصل بالقول إنه "لما ضعف حضور الدين، وسقطت هيبة العالم في نفوس الناس، كانت عقوبة الله تعالى لنا ما نراه.. كثير كلام وقليل عمل، تخبطا وحيرة، غثائية فكرية وعلمية تتحول إلى غثائية في كل المجالات..".


وخلص الدمنهوري إلى توصيف واقع الفوضى الدينية بأن "المسألة صارت عبارة عن شهوات ورغبات نفسية تبحث عن غطاء ديني، فالمسلم يبحث أولا عما يستريح له بنفسه ويحبه قلبه، أو يزكيه عقله؛ فإن لم ينطق الشيخ برغباته فهو متشدد، أو لا يعيش العصر، أو يبث الكراهية، أو متخف.. ثم آلت الأمور إلى ما يشبه لعب الأطفال، وتحولت القضايا العلمية إلى حروب إغاظة، كل طرف يريد إثبات موقف ليغيظ من لا يوافقونه في هواه".