عالم الخوف والإخفاق هو العالم الذي توقعه الكاتب الشهير جورج أورويل (1903- 1950م) في روايته الشهيرة "1984".. والتي كتبها سنة 1948م مطلا منها على الدنيا بعد جيل من الزمن (الجيل 33 عاما تقريبا) الذي كتب فيه روايته، والتي تعد بالفعل من أفضل روايات القرن العشرين بحسب الجهات المعنية بهذه الإحصاءات..
بكتابة أورويل لهذه
الرواية وأختها الشقيقة "مزرعة الحيوانات" يكون جوروج أورويل -وبحسب عدد كبير من المثقفين- أحد صانعي القرن العشرين وواحد من أكبر المؤثرين في فكر هذا القرن.. كما قال لنا الراحل د. جلال أمين (1935- 2018م) أستاذ الاقتصاد السياسي في الجامعة الأمريكية، رحمه الله.
والحق أن روايتي "1984" و"مزرعة الحيوانات" يصح أن نقول عنهما إنهما أكبر شهادة موثقة على عالم الخوف والإخفاق الذي خرج مولودا شائها من رحم الحرب العالمية الثانية (1939- 1945).. يستوي في ذلك عالم المنتصرين وعالم المهزومين وعالم المتفرجين (العالم الثالث).. فالجميع يشربون من نفس الكأس المسمومة مع اختلاف الكم والكيف والنوع والإخراج الأخير للمشهد والصورة..
الحق أن روايتي "1984" و"مزرعة الحيوانات" يصح أن نقول عنهما أنهما أكبر شهادة موثقة على عالم الخوف والإخفاق الذي خرج مولودا شائها من رحم الحرب العالمية الثانية (1939-1945 ).. يستوي في ذلك عالم المنتصرين وعالم المهزومين وعالم المتفرجين (العالم الثالث).. فالجميع يشربون من نفس الكأس
صحيح أن دول العالم الثالث تعد صورة بارزة وضخمة لهذا العالم دون أي تجمل أو تجميل.. لكن الحقيقة العميقة تكمن في تلك الصورة النهائية: "حذاء ثقيل على وجه إنسان إلى الأبد"، وهي الجملة التي قالها "أوبرين"، رجل السلطة القوي، بعد القبض على "ونستون سميث" بطل الرواية الذي يعمل موظفا في وزارة الحقيقة، وذلك أثناء مهمته الهامة في تعذيبه (رواية 1984).. ما هي هذه المهمة..؟ أهي اعترافات تنظيمية وحركية..؟ أهي أوامر محددة بتغيير مسار حياته وعلاقاته؟ لم يكن شيء من ذلك يريد.. كان يريد منه إيمانه وأفكاره وعقله.. (لا أريد اعترافات.. أريد إيمانا وأفكار).
سيقول له أيضا في هذه المحاورة العارية: القوة والسلطة ليستا وسيلة.. بل هما الهدف نفسه واذا أردت ان تتخيل ما هو المستقبل.. فحاول أن تتخيل صورة حذاء ثقيل على وجه إنسان إلى الأبد.
هكذا قال له من يتحدث باسم الدولة والحزب و"الأخ الأكبر" في استخلاص نهائي وتقطير مكثف لما يجرى معه وسيجري مع غيره.. وتلك هي الحقيقة العميقة لقصة "الإنسان" في أي مكان كان تحت مظلة الدولة الحديثة.. باختلاف الدرجة بطبيعة الحال..
فما يفعله بوتين والـ"نومنيكلاتورا" التي زرعها ستالين في سالف الدهر والأوان في روسيا ومحيطها القديم.. يختلف في درجته عما يفعله بايدن و"المجمع الصناعي العسكري" في أمريكا.. يختلف في الدرجة عما يحدث في أوروبا/ ماستريخت. طبعا أوروبا القديمة ذات المخزون الكنسي العتيق في القبض على الأعناق لا بد أن يكون لها مشهدها الخاص الذي يتناسب ومكانتها الرفيعة في الدنيا في القرون الثلاثة الماضية. كل ذلك يختلف عما يحدث في الشرق الأقصى بالطبع.. ويختلف اختلافا خلوفا بكل طبائع الأمور والأحوال والصور والأشكال عما يحدث في الشرق الأوسط).. فقط علينا أن نتذكر الصورة الشهيرة للحذاء والوجه.! وما قاله أوبرين لونستون.
لم يكتف أورويل في روايته الشهيرة بتفكيك وتحليل منظومة
الاستبداد فقط.. بل والأهم قام بتحذيره الرهيب من المستقبل الأسود الذي ينتظر "الإنسان".. وقدم لنا صورة منطقية جدا، متكاملة جدا، مذهلة جدا؛ لما سوف يكون عليه هذا المستقبل إذا استمر الحال كما يجرى ويدور المنوال!
لم يكتف أورويل في روايته الشهيرة بتفكيك وتحليل منظومة الاستبداد فقط.. بل والأهم قام بتحذيره الرهيب من المستقبل الأسود الذي ينتظر "الإنسان".. وقدم لنا صورة منطقية جدا، متكاملة جدا، مذهلة جدا؛ لما سوف يكون عليه هذا المستقبل
العنوان الأصلي للرواية كان "آخر رجل في أوروبا"، وهو في الحقيقة أكثر دلالة على فكرة الرواية في تصويرها لفشل "البطل" في الاحتفاظ بفكره وإيمانه، بل وشخصيته ذاتها.. ضد طغيان الدولة وأجهزة الدولة ورجال الدولة، رغم محاولاته النضالية المستمرة لمقاومة هذا التسلط والمراقبة الدائمة لحياة الناس وعقولهم ومشاعرهم.
بطل الرواية كما ذكرنا هو "ونستون سميث" الرجل الأربعيني الذي يمتلك "رأسا ورأيا"، ويعيش في دولة أوشانيا؛ إحدى الدول الثلاث الكبرى التي تحتل العالم مع دولة يوراشيا ودولة استاشيا.. موظف حكومي في "وزارة الحقيقة"، ذلك المبنى المهول المكون من ثلاثة آلاف غرفة.. والوزارة تختص بالأخبار والثقافة والفنون.. لكنها في الحقيقة تختص بالتزوير والأكاذيب الى يتم تلبيسها ألف قناع وقناع..
هناك أيضا وزارة الحب والتي مهمتها الأمن والتعذيب! ووزارة السلام المعنية بشؤون الحرب والدفاع والأسلحة.. ووزارة الوفرة التي تختص بالاقتصاد والتجويع.. فتجويع "الشعب" مهمة قومية حتى يظل يحلم دائما بما ينقصه من أشياء بسيطة كالسلع الغذائية وما إلى ذلك.
بطلنا المغوار "ونستون" فرضت عليه سياسة الحزب الحاكم وسيطرة "الأخ الأكبر" عليه وعلى الناس أن يعيش الحياة المتكررة المتشابهة التي يعيشها باقى الناس.. لكنه ذات يوم من أيامه المملوله الكالحة هذه.. ارتكب جريمة خطيرة وفق نظر الحزب.. وذلك بشرائه مفكرة وقلما لكتابة مذكراته الشخصية وتدوين يومياته.
بالقبض على البطل سنرى جميعا "فشله الكبير" في مسعاه الأخير لإنقاذ روحه.. وسينعى لنا أورويل "الإنسان" في هذا البطل.. وهو في الحقيقة كان ينعى لنا وفينا وبنا الإنسانية كلها، وهي مقبلة على أزمنة جديدة
يدخل غرفته وقد نال منه الإحباط والعجز أمام دكتاتورية الدولة والزعيم (الأخ الأكبر)، ومن تلك الحياة المفروضة على البشر الأحرار أو الذين ينبغي أن يكونوا أحرارا ويشرع في الكتابة والتدوين.. وبفعلته هذه -تدوين حقائق حياته ومجريات يومياته- يكون صاحبنا تقريبا قد صار في عداد الموتى.
أنت هنا أمام حالة من "السيطرة المبكرة جدا" على "محاولة صغيرة جدا" لإنتاج وتوليد المعرفة (تدوين يوميات).. القصة ليست في التدوين؛ القصة أنه لا زال هناك حياة وإنسان.. لا زال هناك خيال ورمز ولغة وعقل ومشاعر وحب، وهو ما سنراه في مراقبة علاقته بحبيبته "جوليا" ومراقبتهما الدائمة بـ"التيليسكرين" عن طريق صاحب الغرفة العجوز الذي يمثل الخوف والجهل والخيانة.. وكل هذه الأشياء -المرصودة- لا ينبغي لها أن تكون موجودة داخل كيان إنسان..
بالقبض على البطل سنرى جميعا "فشله الكبير" في مسعاه الأخير لإنقاذ روحه.. وسينعى لنا أورويل "الإنسان" في هذا البطل.. وهو في الحقيقة كان ينعى لنا وفينا وبنا الإنسانية كلها، وهي مقبلة على أزمنة جديدة تختلف كليا عما كان قبلها.
twitter.com/helhamamy