فقدَ الاتجاهات وأضاع البوصلة، فلم يزل في تلمس الطريق، يزحف كثعبان أعمى دون وعي ولا دراية، غير عابئ بوعورة المسلك وأخطار المجهول، في ظل العمى السياسي والأخلاقي والاجتماعي الذي يتربص بمسيرته الرعناء نحو هدف أحمق، ليس موجودا إلا في دماغه وأدمغة من يملون عليه إجراءاته، التي لا تنسجم مع
تونس الثورة وتونس الأدمغة الفكرية والسياسية والثقافية، التي تنتظم المشهد الوطني بكثير من الفاعلية والدينامكية والوعي.
يزحف
قيس سعيد كأفعى عمياء نحو دولة على مقاسه في دروب متعرجة مليئة بالأشواك والألغام، دون أدنى رؤية راشدة لحكم راشد، معتديا على الدستور الذي انتخب على أساسه. وإذا كان الدستور فاقدا للشرعية كما يدعي، فهذا يعني بشكل آلي أنه فقد شرعيته الرئاسية منذ اللحظة الأولى التي عزل فيها رئيس الحكومة، ثم قيامه بإغلاق البرلمان وإلغاء هيئة مراقبة دستورية القوانين والهيئة العامة لمكافحة الفساد، ليقوم بعدها بخطوته المتوقعة بحل المجلس الأعلى للقضاء، ليجمع في يديه المرتجفتين كل السلطات التي لن يستطيع إدارتها منفردا، وسيكون مآل كل ما فعل البوار والخسران ومزيدا من الفقر والجوع والفوضى التي ستطيح به عاجلا أو آجلا، ذلك أنه فقد رصيده الاجتماعي والأخلاقي، وبدا عاريا حتى من ورقة التوت. والقاعدة القانونية تقول: "كل ما بني على باطل فهو باطل"، فإذا كان الدستور باطلا، كما يقول، فرئاسته باطلة. فقد أصبح سعيد رئيسا بفضل القسم على هذا الدستور، وتعهد بحمايته وليس بإلغائه، فقد حنث بالقسم وخرق الدستور وخان وعوده الانتخابية، فماذا تبقى له من شرعية؟!
لم يقم سعيد مند 25 تموز/ يوليو حتى اليوم بأي إجراء وازن عميق في أي اتجاه إصلاحي، بل كل ما فعله ليس إلا هدما للدولة وتغوّلا على المواطنين وقوتهم، حتى تلك الحكومة التي عينها في أثناء زحفه الأعمى صوب المجهول جاءت حكومة واهية هشة، تشبه في أدائها إدارة المصانع القديمة التي يطبق موظفوها التعليمات الصادرة بلا إرادة ولا فهم لطبيعة الآلات التي يتعاملون معها، فهي حكومة عاجزة بلا خبرة ولا شخصية، وغير مصادق عليها من البرلمان، وليس بإمكانها إدارة أي من الملفات المركزية التي يتوجب عليها إدارتها، فقد تم تعيينها بناء على الولاءات، ولا شيء غير ذلك.
لقد تفاقمت الأزمة الاقتصادية والاجتماعية في تونس بناء على
الأزمات السياسية الناجمة عن التدابير النشاز التي اتخذها سعيد مند 25 تموز/ يوليو حتى اليوم، ولا يزال يمارس إجراءاته الباعثة على الدهشة والغرابة، ويصدر المراسيم الرئاسية التي لم تقترب من حاجات المواطن الأساسية، والتي نجم عنها غلاء يزداد يوما بعد يوم، وفقدان لكثير من المواد الضرورية لحياة التونسي، وأكثرها إضرارا بالشعب فقدان الأدوية وزيت الطعام المدعم والأرز والسميد والدقيق، وقد أثقل الغلاء جيوب الفقراء، بعد أن بدأت الطبقة الوسطى بالانهيار، وبات الفقر يطرق أبواب الغالبية من الشعب.
ومما يبعث على القلق أن تصنف مجموعة الأزمات الدولية تونس ضمن الدول المهددة بما أسمته "صراعات مميتة"، وأكدت المجموعة أن حجب المساعدات الأمريكية سيتسبب في اضطرابات داخل القوات المسلحة، وفي الشارع، وصرح رئيس لجنة العلاقات الخارجية في الكونغرس الأمريكي بالقول؛ "إن الحكم بالمراسيم لا بد أن ينتهي.. المجلس الأعلى للقضاء لا بد أن يستأنف عمله.. البرلمان لابد أن يعود للعمل، والاعتقالات السياسية لا بد أن تنتهي فورا".
ونشرت صحيفة "لوبوان" الفرنسية تقريرا، تحدثت فيه عن انضمام تونس إلى قائمة البلدان العشر الأكثر عرضة للخطر في سنة 2022. والحقيقة أن هذا التقرير لم يتضمن شيئا جديدا، ولم يأت بغير ما هو واضح للعيان، فهذا متحقق ونراه في كل ما تقع عليه أعيننا وكل ما تسمعه آذاننا طوال الوقت، وأخطره الاحتقان السياسي وترقب مزيد من الإجراءات الرئاسية التي يتوقع أن تدمر الوطن وتخرجه عن كونه وطن التونسيين الكارهين للعنف، الذين لم يقوموا يوما بكسر باب بنك أو مغازة (سوبر ماركت)، فالشعب التونسي من أكثر الشعوب العربية اشمئزازا من العنف والدم؛ فقد اعتادوا مند الاستقلال على الاستئناس بالسلامة وحب الحياة، وعززت سياسات بورقيبة طوال فترة حكمه حالة السلم الأهلي، والابتعاد عن العنف وحمل السلاح، حتى السكين الصغيرة ما زالت حتى اليوم تدين حاملها بوصفه حاملا لسلاح.
لقد بات من الغباء أن ننتظر من قيس سعيد أي خير، أو أن نصدقه في كلمة وهو يكذب طوال الوقت، ولا يعي ما يفعل، ويبدو لي أنه فعلا سيأخذ تونس إلى احتراب أهلي أو إلى دولة بوليسية متخلّفة وغير قادرة على النهوض، بل سيعيدها للوراء 50 سنة على الأقل بعقليته الكلاسيكية التي لا تستطيع مواكبة متطلبات العصر، وسيكرس الفقر بوصفه حالة اجتماعية اعتيادية، وسيلقي بالمئات في السجون والمعتقلات. ومن لم يحس بذلك بعد فليراجع عقله وطريقة تفكيره، وعلى خصوم سعيد ألا ينتظروه حتى يصل إلى تلك اللحظة قريبا، فلا بد من ثورة شعبية تطيح به في أقرب الآجال. فلم يعد الانتظار ممكنا.
حين تصنف مجموعة الأزمات الدولية تونس ضمن المناطق المعرضة لخطر الصراع وتصعيد العنف جنبا إلى جنب مع أفغانستان، فذلك ليس مزاحا ولا تسلية، بل كلام خطير، ولا يساورني شك في دقته وتمام صحته. لذلك يتعين على الجهات المعنية بأمن تونس محليا وخارجيا، أن تقوم بدورها البعيد عن الخطب والكلام الإنشائي، لتفادي الكارثة التي يأخذنا قيس سعيد إليها.
إلى ذلك، فقد خفضت وكالة التصنيف "موديز" تصنيف تونس من B2 إلى Caa1 مع آفاق سلبية، وهذا يعني دخول الاقتصاد التونسي في منعرج خطير واعتبار تونس دولة غير قادرة على الإيفاء بالتزاماتها، كما جاء في التقرير. فقد انتهك قيس سعيد القوانين الدولية والمحلية، وأقام أهراما من الأوهام التي لم يعد يصدقها أحد لا في الداخل ولا الخارج، باستثناء بعض السذج الذين أوهمهم بدولة الأحلام التي تحولت إلى كوابيس مزعجة، وسيتضح لهم قريبا صحة ما نقول، حين يبدأ في إلغاء وجود منظمات حقوق الإنسان الوطنية، وإلغاء تراخيص غير الوطنية.
إن قيس سعيد وعصابته ثقبوا آذاننا بالحديث عن محاربة الفساد وإعادة الأموال المنهوبة، وحتى اللحظة، بعد مرور نحو سبعة شهور على الانقلاب الأسود، لم يعد سعيد يملك فلسا لخزينة الدولة، ولم يقبض على فاسد واحد، وهنا يبرز سؤال مشروع سألناه وسأله غيرنا كثيرا، لكن لا بد من تكراره لأهميته: ماذا قدّم قيس سعيد لتونس حتى اللحظة؟ هل استرجع مليما واحدا من المليارات التي صدع رؤوسنا بها، والتي وعد باستثمارها في تشييد المدارس والمستشفيات في المناطق المحرومة التي تعاني الأمرّين جراء إجراءاته الهوجاء؟
أكثر ما يقلقني شخصيا، بوصفي تونسيا يحب بلده ويخشى عليها، هو انتظار المعارضة وعدم اتخاذ مبادرات قابلة لتحقيق النتائج، واكتفاؤها بالرد الكلامي الذي لا يسمن ولا يغني من جوع. فلست أبالغ كمراقب لما يحدث في بلدي إذا قلت بأن تونس قد تصبح ليبيا أو سوريا أو اليمن، وأن القادم كارثة عمياء عنوانها قيس سعيد وطغمته الفاسدة.
وأخيرا، لا بد من كلمة إلى جنود بلادي الأحرار الذين عودونا على المواقف الصلبة والصحيحة دائما. أقول لهم: تونس في حمايتكم، ولن نسامحكم إذا سمحتم بمزيد من الدمار للوطن، فأنتم أحرار وأوصياء على وطن الجميع، ولستم عبيدا لحاكم!!