قضايا وآراء

استقالة مديرة الديوان أو أزمة "الحوار الداخلي" للرئيس التونسي

1300x600
يوم 24 كانون الثاني/ يناير الحالي صدر بالرائد الرسمي للبلاد التونسية الأمر الرئاسي عدد 50 لسنة 2022، وهو أمر ينهي تكليف السيدة نادية عكاشة بمهام مديرة الديوان الرئاسي، بعد أن كانت لمدة سنتين من أهم الشخصيات الفاعلة في دائرة صنع القرار. إذ يكفي أن نقرأ تعليلها لقرار الاستقالة في الرسالة المنشورة على موقع فيسبوك لنفهم أنها لم تكن مجرد "موظفة"، بل كانت طرفا في تحديد "المصلحة الفضلى" لتونس، أي طرفا في بناء المشهد السياسي التونسي قبل 25 تموز/ يوليو وبعده.

ولا شك عندنا في أنّ استقالة السيدة عكاشة تعكس وجود خلافات "جوهرية" بين مراكز القوى المتحكمة في القصر الرئاسي، وهي خلافات بلغت مرحلة يستحيل معها أن تدار بمنطق التسويات والترضيات بعيدا عن الرأي العام وعن منطق "النفي المتبادل".

بصرف النظر عن أي حكم قيمي، فإن ما يميز الرئيس قيس سعيد هو تأسس جملته السياسية أو أدائه على جملة من "المتناقضات" التي لا يمكن التأليف بينها - من جهة أولى - إلا بمنطق "الحوار الداخلي"، أي بعيدا عن أي حوار حقيقي داخل الفضاء العمومي، كما لا يمكن - من جهة ثانية - الدفاع عنها أو فرضها على سائر الفاعلين إلا بمنطق سلطان الغلبة.

ونحن لن نفهم سعي الرئيس إلى تجميع كل السلطات بين يديه، ورفضه لأي حوار مع وسائل الإعلام الوطنية ومع كل الفاعلين الجماعيين - بمن فيهم أنصار" تصحيح المسار" - وإصراره على الاستشارة الوطنية الالكترونية بعيدا عن رقابة أي هيئة مستقلة، إلا إذا اعتبرنا ذلك كله رفضا أو عجزا عن مغادرة الفضاء المريح للحوار الداخلي المسنود بالقوة الصلبة للدولة (الأمن- الجيش) في سردية خيالية أساسها تمثيل الإرادة الشعبية وكأنها إرادة متجانسة لا تصدعات فيها.
ما يميز الرئيس قيس سعيد هو تأسس جملته السياسية أو أدائه على جملة من "المتناقضات" التي لا يمكن التأليف بينها - من جهة أولى - إلا بمنطق "الحوار الداخلي"، أي بعيدا عن أي حوار حقيقي داخل الفضاء العمومي، كما لا يمكن - من جهة ثانية - الدفاع عنها أو فرضها على سائر الفاعلين إلا بمنطق سلطان الغلبة

إننا أمام واقع نفسي/ فكري أو أمام تمركز مطلق حول الذات يدفع بالرئيس في "حواراته الداخلية" المنشورة على الصفحة الرسمية للرئاسة إلى شيطنة كل خصومه - ومعهم أولئك الذين يساندونه مساندة نقدية تخرج عن "المنطق الإيماني" به وبمشروعه - باعتبارهم ممثلين لإرادة مخترقة في مستوى الدوافع أو في المستوى القيمي (فهم منافقون، مخمورون، كذابون) ومشبوهة في مستوى العلاقة بالخارج (فهم مأجورون، مرتزقة). إنهم "جميعا" غرباء عن الشعب ولا يملكون أي شرعية للحديث باسمه. ولذلك فإن الرئيس عندما يتحدث عن "تصحيح المسار" باعتباره إرجاعا للأمانة إلى أهلها (أي إلى الشعب)، فإنه يقول نصف الحقيقة. فـ"أهل الأمانة" هم "ظاهريا" الشعب الذي خرج للاحتجاج يوم 25 تموز/ يوليو، ولكنهم في الواقع هم الرئيس و"الصادقون" من أنصار مشروعه. فالإرادة الشعبية قد بلغت مرحلة إلغاء الحاجة إليها - وبالطبع فإنها لا تحتاج إلى ضمانات ولا تقبل "سحب الوكالة" - بمجرد أن وجدت من يجسدها تجسيدا نهائيا ومطلقا: الرئيس.

لو أردنا بسط الأمثلة على التناقضات الداخلية في الجملة السياسية للرئيس فإننا سنحتاج إلى مساحة نصية تتعدى هذا المقال، ولذلك فإننا سنكتفي ببعض الأمثلة التي قد تعيننا على فهم الأسباب العميقة لاستقالة أو إقالة السيدة عكاشة.

فالرئيس "المتدين" هو نفسه الرئيس المحاط بقوى اليسار وورثة سياسات "تجفيف منابع التدين"، والرئيس الذي لم يشارك في النضال ضد الاستبداد ولا في الثورة هو نفسه من يعيد بناء السردية الثورية مستعينا بـ"كفاءات" كانت زمن المخلوع من "المواطنين المستقرين" مثله، والرئيس الذي قال إن التطبيع خيانة هو ذاته من ينحاز لمحور الثورات المضادة وعرّابي صفقة القرن في المحور السعودي-الإماراتي- المصري، والرئيس المتحدث بالعربية الفصحى هو نفسه من اختار وزيرة أولى لا تتقن حتى الحديث باللهجة التونسية بحكم ثقافتها الفرنسية، والرئيس الرافض للتدخلات الخارجية والمدافع عن استقلالية القرار هو نفسه الرئيس الذي اعتبر الاستعمار حمايةً، واعتذر عن مهاجمة بعض النواب لفرنسا ومطالبتها بالاعتذار عن سياساتها الاستعمارية والكف عن سياسات إفساد الانتقال الديمقراطي، وهو نفسه الرئيس الذي لا يجد حرجا في مهاتفة الرئيس الفرنسي ليطلعه على قراراته قبل إطلاع الرأي العام التونسي عليها.
استقالة السيدة عكاشة تعكس بلوغ منطق "الحوار الداخلي" وما ينبني عليه من التغاضي عن الهوة بين مبدأ الرغبة ومبدأ الواقع؛ مرحلةَ الأزمة أو التصدع في مجال تداوله الأول. وإذا كان الرئيس قد فرض على خصومه ومن يساندونه مساندة نقدية حوارَه الداخلي بعد أن حوّله إلى خارطة طريق سياسية واقتصادية، فإن استقالة السيدة عكاشة تأتي لتؤكد أن مركز صناعة القرار لم يعد يشكل كتلة متجانسة

سواء كانت استقالة السيدة عكاشة استجابة لـ"أمر" فرنسي بضرورة الانسحاب بعد أن ثبت للإدارة الفرنسية أن الرئيس لا ينوي الاكتفاء بمدة الأشهر الستة التي حددتها تلك الإدارة لـ"حالة الاستثناء"، أم كانت استقالتها نتيجة صراعات مع المؤسسة العسكرية أو مع وزير الداخلية، من المؤكد أن بقاء السيدة عكاشة كان مشروطا بتحقيق وظيفة الإشباع النفسي للرئيس في حواراته الداخلية وصياغاتها "المراسيميّة"، أي على هيئة مراسيم لا تقبل النقض بعد صدور المرسوم 117 يوم 22 أيلول/ سبتمبر 2021. فالرئيس لا يعترف بمحاورٍ غير شعبه "المتخيل"، أما من يحيطون به فإن وظيفتهم الأساسية هي تقوية حواراته الداخلية وعدم معارضتها.

لا شك في أنّ استقالة السيدة عكاشة تعكس بلوغ منطق "الحوار الداخلي" وما ينبني عليه من التغاضي عن الهوة بين مبدأ الرغبة ومبدأ الواقع؛ مرحلةَ الأزمة أو التصدع في مجال تداوله الأول. وإذا كان الرئيس قد فرض على خصومه ومن يساندونه مساندة نقدية حوارَه الداخلي بعد أن حوّله إلى خارطة طريق سياسية واقتصادية، فإن استقالة السيدة عكاشة تأتي لتؤكد أن مركز صناعة القرار لم يعد يشكل كتلة متجانسة وذات موقف موحد، مما ينذر بانقسامات وصراعات متوقعة بين مكوناته من جهة تعاطيها مع "الحوارات الداخلية" للرئيس وتأثيراتها الكارثية على المشهد التونسي. فالسيدة عكاشة ليست إلا واجهة لمركز نفوذ أيديولوجي مرتبط بلوبيات محلية وقوى إقليمية ودولية، وهو ما يعني أن استقالتها ستغير بالضرورة موازين القوى داخل القصر، ولكنه تغير لا يمكن الجزم بوجهاته بحكم ندرة المعلومات الموثوقة التي يمكن أن نبنيَ عليها دراسة استشرافية للوضع التونسي في المرحلة القادمة.

twitter.com/adel_arabi21