بورتريه

"فيلسوف اللاعنف" يرحل قابضا على "سلمية الثورة" (بورتريه)

جودت سعيد- عربي21

ألقاب عديدة أطلقت عليه خلال مسيرته الفكرية الخصبة والمورقة، فهو "فيلسوف اللاعنف" و"داعية السلمية والوسطية" و"غاندي العرب" و"داعية اللاعنف" و"مؤسس المقاومة المدنية" و"غاندي سوريا".


يعد من أبرز المفكرين الإسلاميين المعاصرين، الذين يشكلون امتدادا لمدرسة المفكرين الإسلاميين الكبار أمثال المفكر الجزائري مالك بن نبي، ومحمد إقبال "مفكر باكستان".


ولد جودت سعيد بقرية بئر عجم في الجولان السوري عام 1931 لأسرة من أصول شركسية، أرسله والده لمتابعة دراسته في الأزهر الشريف بالقاهرة عام 1946 والتحق بكلية اللغة العربية ليحصل منها على إجازة في اللغة العربية.


تعرف على مالك بن نبي في آخر مراحل وجوده في مصر من خلال كتاب "شروط النهضة"، وتعرف عليه شخصيا قبل مغادرة مصر.


زار السعودية وقضى فيها نحو عام، عاد بعدها إلى سوريا لتأدية الخدمة العسكرية، وأثناء وجوده في صفوف الجيش حدث الانفصال في الجمهورية العربية المتحدة بين مصر وسوريا، ورفض الامتثال لأوامر القادة في قطعته العسكرية ما أدى إلى حجزه في الإقامة الجبرية.


وما أن أنهى خدمته العسكرية حتى عين مدرسا للغة العربية في دمشق، وما لبث أن اعتقل مرات عديدة بسبب نشاطه الفكري، ورغم صدور قرارات بنقله إلى مختلف مناطق سوريا إلا أنه واظب على التدريس إلى أن صرف من عمله نهاية الستينات.


نزح سعيد عن قريته بعد أن وقعت الجولان تحت الاحتلال الإسرائيلي في حرب حزيران/ يونيو عام 1967.

تعرض سعيد للسجن عدة مرات ووضع تحت الإقامة الجبرية لسنوات عديدة وكانت تتم مراقبته من قبل الأجهزة الأمنية السورية، ويمنع طلابه من حضور الدروس التي يقيمها بين الوقت والآخر.

لكنه تمكن بعد حرب تشرين الأول/أكتوبر عام 1973، وتحرير القنيطرة في الجولان السوري، من العودة إلى قريته التي كانت من ضمن القرى المحررة، فأعاد ترميم المنزل مع عائلته ووالده وإخوته، وعمل في تربية النحل والزراعة، إضافة إلى ممارسة نشاطه الفكري والثقافي.


وكانت المرة الأولى التي يتعرف فيها القارئ العربي على شخصيته الفكرية بعد صدور كتبه الأول في مطلع ستينيات القرن الماضي وحمل عنوان "مذهب ابن آدم الأول، أو مشكلة العنف في العمل الإسلامي".


وقدم جودت سعيد من خلال كتابه تصوره لفكرة نبذ العنف في العمل الإسلامي، وقد اهتم بشرح قصة ابني آدم الواردة في القرآن الكريم واستنباط فكرة اللاعنف في الإسلام منها ومن أحاديث نبوية أخرى.
ويقول مطلعون على نتاجه الفكري إنه حين يناقش مبدأ اللاعنف وعلاقته الجذرية بالإسلام ورفضه استخدام العنف أو القوة، فهو في الواقع الأمر يدعو إلى اللجوء للعقل والتفكير، لذلك كانت دعوته إلى اللاعنف دعوة للعقل في أساسها.


بقي سعيد بعيدا عن أي تأييد نظام الرئيس حافظ الأسد وابنه بشار، وبادر لحضور منتديات ربيع دمشق بعد وصول بشار أسد إلى السلطة عام 2000، كما كان أحد الموقعين على "إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي" عام 2005، والذي دعا إلى إنهاء حكم الحزب الواحد وإطلاق الحريات السياسية في سوريا.


تعرض سعيد للسجن عدة مرات ووضع تحت الإقامة الجبرية لسنوات عديدة وكانت تتم مراقبته من قبل الأجهزة الأمنية السورية، ويمنع طلابه من حضور الدروس التي يقيمها بين الوقت والآخر.


واعتقل نجلاه، بشر وسعد، خلال اعتصام وزارة الداخلية بداية الثورة السورية عام 2011، ثم أطلق سراحهما بعد دفع كفالة مالية، فيما شارك هو بنفسه أبناء مدينة جاسم في درعا التظاهرات، والتي ألح فيها على ضرورة الالتزام بالنضال السلمي واللاعنف وسيلة لإسقاط النظام وتحقيق مطالب الناس.


كما زار سعيد مدينة دوما بريف دمشق إبان المجزرة التي قام بها النظام في الشهر الأول من الثورة وألقى خطابا بالمعزين هناك.


ومع اشتعال الاحتجاجات في سوريا، طالب سعيد المتظاهرين بالتمسك بسلمية احتجاجاتهم، وشدد على ضرورة نبذ العنف. ورغم القمع الذي استخدمه النظام السوري وتعالي الدعوات لاستخدام العنف، إلا أن سعيد أصر على الالتزام بالنضال السلمي، وعقب تصاعد الحرب ومقتل شقيقه في القصف واستهداف المدنيين اضطر للنزوح إلى تركيا.


ومن تركيا واصل حديثه عن سلمية الثورة السورية بقوله : "إذا نجحت الثورة السورية بالسلاح، سنظل محكومين بالسلاح، وكل من أخذ بالسيف بالسيف يهلك، والديمقراطية لا تحل في بلد إلا إذا قال جميع الفرقاء لن نلجأ إلى العنف".


ومع ذلك يقول سعيد: "عندما دعوت إلى السلمية في درعا، كادوا يقتلوني".


وأكد أن كل من يسلح في سورية يسلح لصالحه "ونحن نخدمه" وأن الخروج من هذا الوضع في سوريا يكون بالعقل والتوحد العربي، والاتحاد لا يحتاج إلى السلاح، والاتحاد الأوروبي خير مثال. بحسب قوله.

 

توفي جودت سعيد في مدينة إسطنبول قبل أيام من عيد ميلاده الحادي والتسعين، وهو لا يزال يردد عبارته "إن الدنيا لم تبتدئ عندنا، ولن تنتهي عندنا، ونرجو أن نتعاون على البر والتقوى، ولا نتعاون على الإثم والعدوان، وأن نحرص على التواصي بالحق والتواصي بالصبر".

يلخص سعيد الواقع العربي بقوله إن ثمة "مشكلة كبرى جرَت الويلات علينا نحن المسلمين وجعلتنا عبيدا، وهي أننا لم نصلح ذات بيننا، في حين يقول القرآن (اتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم ). نحن إلى الآن لسنا قادرين على إصلاح ذات بيننا، لكننا نتهافت لكي نصلح ما بيننا وبين أمريكا، وما بيننا وبين إسرائيل، وهذا أمر مرفوض".


وينتقد مفكرون وعاملون في الشأن الإسلامي فكرة اللاعنف بوصفها "حلا " فهم يشيرون إلى أنها "خيالية طوباوية تماما مثل جمهورية أفلاطون"، بحسب الكاتب عبد العزيز الكحيل.


كحيل يرى أن هذه الوصفة "استهوت ببساطتها جودت سعيد فأصابتها آفة المبالغة حتى تخطّى المنهج الموضوعي وغاص في القراءة الانتقائية للقرآن والسنة وفي تجاهل الأسئلة البديهية الكبرى التي تهدم القضية من أساسها".


وبحسب مفكرين ومتابعين لمسيرة سعيد الفكرية فإن ما يسجل عليه عدم قدرته على تشكيل جماعة تؤمن بأفكاره إلا في مطلع التسعينيات من القرن الماضي، إلا أن الجماعة ما لبثت أن بدأت تتفكك وتنحسر في نهاية التسعينيات تحت تأثير تصاعد الأحداث المحيطة بسوريا التي كانت تدفع نحو التطرف والتشدد.


أثرى سعيد المكتبة العربية بعدة إصدارات قيمة ومؤثرة لعل من أهم :" حتى يغيروا ما بأنفسهم"، "فقدان التوازن الاجتماعي"، "العمل قدرة وإرادة"، "الإنسان حين يكون كلا وحين يكون عدلا"، "اقرأ وربك الأكرم"، "كن كابن آدم"، "لم هذا الرعب كله من الإسلام؟" و" حتى يغيروا ما بأنفسهم" و"الدين والقانون".


ومن مؤلفاته بالاشتراك : " الحوار سبيل التعايش، ندوة مطبوعة."، "التغيير مفهومه وترافقه، ندوة مطبوعة". مقدمة كتاب "أيها المحلفون: الله لا الملك") لمولانا محمد علي.


وكتبت عنه عدة كتب من بينها : "الهجرة إلى الإسلام" تأليف إبراهيم محمود، "النزعات المادية" تأليف عادل التل، "جودت سعيد بين حديث الأفكار وصمت العلوم" تأليف منير أحمد الزعبي.


توفي جودت سعيد في مدينة إسطنبول قبل أيام من عيد ميلاده الحادي والتسعين، وهو لا يزال يردد عبارته "إن الدنيا لم تبتدئ عندنا، ولن تنتهي عندنا، ونرجو أن نتعاون على البر والتقوى، ولا نتعاون على الإثم والعدوان، وأن نحرص على التواصي بالحق والتواصي بالصبر".