دخل ماهر الخيمة الصغيرة على أطراف "مخيّم عرسال"، وجلس على الأرض. ضمّ ركبتيه بذراعيه وغرق بوجهه؛ كأنما يحاول أن يختفي بعيداً عن الوجود. نظرت إليه زوجته فعلمت حاله، هذا يومٌ آخر قضاه وهو يبحث دون جدوى عن عمل. المخيّم كله يتحدّث عن العاصفة، يقولون إنّها ستكون أشدّ من عاصفة الشتاء الماضي، ملأ الرعب قلوب أهل المخيّم جميعاً، إذ كيف ستقف هذه الخيام الهزيلة أمام عاصفةٍ كهذه؟ وكيف سيحتمل أطفالنا الثلاثة مثل ذلك البرد؟ هل ستكون هذه العاصفة نهاية عائلتنا الصغيرة بعد رحلة عذاب استمرّت أربع سنين؟
حين هربنا من البيت لم نخشَ الموت، فموت العربيّ وحياته سيّان، علّمنا أهلونا أنّ الكرامة أعزّ ما في الوجود، فلمّا ضاعت، لم تعد لحياتنا قيمة، فكيف نخشى الموت؟! لكن، حين اشتعلت نيران الحرب تعلّمنا خوفاً من نوعٍ آخر، ذلك أنّ حرباً انعدمت فيها الأخلاق كهذه جعلت أعراض النساء ملهاةً في أيدي الجنود المتحلّلون من الخلق والشهامة والرجولة. هربنا وتركنا خلفنا مزرعةً للورود كانت تدرّ علينا ربحاً وفيراً حتّى ما عدنا نخشى الجوع ولا غدر الزمان، غير أنّ الدنيا لا تصفو لأحد، وما الأحمق إلاّ من رأى دار جاره تحترق وهو يقول: داري لن تحترق.
حين غادرنا البيت لم نأخذ إلاّ مدفأة الكاز وبضع حُليّ كنّا نبيعها قطعةً قطعة ونشتري بثمنها طعاما لهؤلاء الأطفال الذين لم ينعموا بحلاوة الطفولة كباقي أطفال الدنيا. ما أجمل حياة الطفل الذي ينام وما في قلبه همٌّ ولا غمْ. ولا يفكّر إلاّ بغدٍ تشرق شمسه فيمتلئ بالضحك واللعب والسعادة، أمّا أطفالنا فتجرّعوا الهمّ صغاراً، وصاروا يعرفون الجوع والبرد والموت جيّداً.
أخرجت عائشة رغيفاً يابساً من الخبز ووضعته في قدرٍ به بعض الماء حتّى يأكله الصغار، وضعته أمامهم ثم جلست بجانب زوجها الذي يكاد يموت كمداً. وضعت يدها على كتفه فرفع رأسه ونظر إليها ودموع الحسرة تملأ عينيه، لعلّك تذوّقت كلّ أنواع الألم، لكن أن تعود إلى بيتك وليس معك لقمةٌ تضعها في فم أطفالك، فذاك أشدّ درجات الألم. لم تتكلّم الزوجة الصابرة، بل امتدّت يدها برفقٍ إلى قرطٍ ذهبي كانت تتزيّن به، ويذكّرها بأيام جميلةٍ لم تكن تحبّ أن تنساها. وضعت القرط في يده وقالت: أنت والأولاد أغلى عندي من الذهب، لم يتكلّم ماهر، فقط ضمّ القرط بيده بقوة وعيناه تفيضان بالدموع.
خرج ماهر من الخيمة صامتاً؛ تماماً كما دخل. توجّه إلى المدينة، وذهب إلى متجرٍ صغيرٍ كان يعرفه جيّداً، لم يتكلّم مع التاجر الذي كان يقرأ جريدته بصمت. وضع القرط على ميزانٍ صغير كان أمامه، نظر التاجر إلى الميزان ثمّ فتح جاروراً كان أمامه وأخرج خمسة عشر دولاراً وضعها أمام ماهر. نظر إلى الرجل وقال بصوتٍ ضعيف: حرام عليك فهذا القرط يساوي أكثر من هذا المبلغ بكثير، امتدّت يد التاجر إلى المال ودون أن يتكلّم أعاد المال إلى جاروره وعاد ينظر في جريدته، أخذ ماهر القرط وهمّ بالخروج من المتجر، عند الباب وقف وقال: عشرون دولاراً، لم يتحرّك التاجر وكأنّه لم يسمع ما قاله ماهر، عاد ماهر فوقف أمام الطاولة التي كانت بينه وبين التاجر، فتح يده فسقط القرط على الطاولة، فتح التاجر جاروره وأخرج خمسة عشر دولاراً ووضعها مكان القرط.
عاد ماهر إلى خيمته، وفي الطريق اشترى كازاً بعشرة دولارات، وخبزاً وجبناً وثلاث بيضات بما بقي. وصل إلى الخيمة وكانت الريح تنبئ بقرب وصول العاصفة الموعودة، أخرج "الصوبّة" المخبّأة في زاوية الخيمة وبعنايةٍ شديدة وضع بها الكاز وأطفاله يتحلّقون حوله بشغف، أخرج عود ثقاب فأشعل فتيل الصوبّة، فابتهج وجهه ووجه أطفاله، ثمّ سرعان ما انطفأت، أعاد ماهر المحاولة، غير أن الفتيل بالكاد اشتعل. ثمّ انطفأ. لم يعرف ما الخطب، نادى جاراً له في خيمةٍ مجاورة وأعادا المحاولة، لكن الفتيل لم يشتعل. وضع الجار إصبعه في تنكة الكاز ثم شمّه بأنفه، نظر إلى ماهر وقال: من أين اشتريت هذا الكاز؟ أجاب ماهر: من بائعٍ متجوّل أقسم أنّ هذه التنكة آخر ما تبقّى وأنّه يريد أن يبيعها بسعرٍ رخيص حتّى يعود لأولاده قبل العاصفة.نظر الجار إلى ماهر وقال: هذا الكاز مخلوطٌ بالماء وقد أفسد المدفأة.
نظر ماهر إلى مدفأته وعلم أنّ هذه نهاية عائلته، أعاد المدفأة إلى مكانها القديم وضمّ إليه أطفاله، كانت العاصفة قد بدأت تشتد، والبرد بلغ مبلغه حتّى لا يكاد المرء يشعر بأصابع يديه وقدميه، بدأت قطرات الماء البارد تتسلّل عبر سقف الخيمة الهزيل، جمعت عائشة ما كان في الخيمة من غطاء ووضعته فوق زوجها والأطفال الثلاثة ثمّ حضنتهم جميعاً فصاروا كأنهم يجلسون في خيمةٍ بداخل الخيمة، قالت عائشة من يريد أن يقرأ لنا سورةً ممّا يحفظ. تحمّس أصغر الأطفال وبدأ يقرأ الفاتحة، كان صوته الضعيف يتهدّج من شدّة البرد وجسده يرتجف بقوّة فلا يكاد يُسمع شيئا.
مرّت ثلاثة أيّام قبل أن تهدأ العاصفة ويبدأ الثلج بالانحسار. جاء الجار وهو يركض وينادي على جاره البائس، كان يحمل بين يديه صندوقاً به طعام وبطانيّات وفي جيبه مائة دولار كانت حصّة ماهر وعائلته من معونةٍ عاجلةٍ أرسلتها إحدى الدول العربيّة، لم يخرج ماهر رغم النداء. استأذن الرجل مراراً ثمّ مدّ رأسه داخل الخيمة التي كانت تمزّقت تماماً من شدة الريح، وكان الماء يملأ أرض الخيمة، سرعان ما رأى تلك الخيمة الصغيرة التي كانت تضمّ العائلة، أزال الغطاء برفق فرأى جثثهم ووجوههم جميعاً تتزيّن بابتسامة الرضى، كيف لا وقد انتقلوا من عالم الغدر والخيانة إلى عالم الرحمة والطمأنينة.
نادى الجار على من حوله، سارعوا بحفر قبرٍ للعائلة مكان الخيمة، ثمّ دفنوهم بملابسهم كما يدفن الشهداء، وقبل أن يغلقوا القبر، وضع الجار ذلك الصندوق بما احتوى، ووضع معه حصّة ماهر من معونة العرب، ثمّ وقف على القبر وقال: أما وقد قتلكم برد الدنيا، فعسى أن تشعروا بالدفء تحت التراب. أما وقد خذلكم الناس، فعسى أن ينصفكم ربّ الناس.
كيف تعاملت السلطة وحركة فتح مع أزمة فلسطينيي سوريا؟!