أفكَار

"الجبرية" أشاعت مفهوما زائفا للقدر توارى معه سلطان الأمة

الاحتجاجات في العالم العربي بدأت بشعارات اقتصادية لكن جوهرها كان سياسيا (الأناضول)

في معمعمة الصراعات السياسية على السلطة والإمامة التي حدثت في زمن مبكر من التاريخ الإسلامي، نشأت اتجاهات عقائدية مختلفة، لم تكن التوجهات السياسية بعيدة عن تقوية هذا الاتجاه أو ذاك، وتبني بعض عقائده ومقولاته لما يقدمه من صبغة إسلامية تضفي شرعية دينية على تلك السياسات. 

من بين تلك العقائد والمقولات، عقيدة الجبرية التي تتمثل في شقها الاجتماعي والسياسي بأن الحاكم القائم هو قدر إلهي لا يملك عامة المسلمين دفعه أو تغييره، وليس لهم إلا التسليم بذلك، والصبر عليه، والدعاء له بصلاح الحال حتى يأذن الله بأمر آخر، وهو ما آل إلى تواري سلطان الأمة في اختيار من يحكمها، وممارستها لدور الرقابة عليه ومحاسبته.  

يُعرف أبو الحسن الأشعري في كتابه (مقالات الإسلاميين) مقولة الجبرية التي نادى بها ودعا إليها في بادئ الأمر الجهم بن صفوان بأنه "لا فعل لأحد في الحقيقة إلا الله وحده، وأنه هو الفاعل، وأن الناس إنما تُنسب إليهم أفعالهم على المجاز، كما يقال: تحركت الشجرة، ودار الفلك، وزالت الشمس، وإنما فعل ذلك بالشجرة والفلك والشمس الله سبحانه، إلا أنه خلق للإنسان قوة كان بها الفعل، وخلق له إرادة للفعل واختيارا له منفردا بذلك، كما خلق له طولا كان به طويلا، ولونا كان به متلونا".

فكرة الجبرية تقوم على أن الإنسان مجبور على أفعاله، وأنه لا يملك اختيارا خاصا به، وقد فند العلماء قديما وحديثا هذه الفكرة، وردوا عليها ردودا شرعية وعقلية، يقول الفقيه السعودي، الشيخ محمد بن صالح العثيمين في الرد عليهم "نحن نفعل الطاعات باختيارنا، ولا نشعر بأن أحدا يجبرنا عليها، ونفعل المعاصي كذلك باختيارنا، ولا نشعر أن أحدا يجبرنا عليها، والدليل على أن فعل الإنسان صادر عن إرادة منه سمعي وواقعي".

وأورد من الأدلة السمعية قوله تعالى: ﴿مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ﴾ [آل عمران: 152]، وقوله تعالى :﴿وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ﴾ [البقرة: 272].. والأدلة أكثر من أن تحصر، بأن فعل العبد صادر باختياره، لكن هذا الاختيار تابع لمشيئة الله، لقوله تعالى: ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ [الإنسان:30].

وتابع العثيمين مناقشته لافتا إلى أن الدليل الواقعي يؤكد أن "كل إنسان يفعل الأفعال وهو لا يشعر أن أحدا يجبره عليها، فيحضر إلى الدرس باختياره، ويغيب عن الدرس باختياره، ولهذا إذا وقع الفعل من غير اختيار لم يُنسب إلى العبد، بل يرفع عنه إثمه". 

أما السياق التاريخي الذي نشأت فيه نظرية الجبرية بشقها السياسي، فيشير الكاتب والباحث الجزائري، لخضر رابحي إلى أن "مفهوم الجبرية الذي ساد خصوصا بعد القرن الرابع، والمتمثل بالتسليم لنظرية الحاكم المتغلب جاء بعد عقود من الصراع الدموي، ونتائجه الكارثية في ترسيخ الاستبداد، وزيادة نفوذه وامتداده، وقد ظهرت بوادر فكر الإرجاء الأولى بعد مقتل الحسين رضي الله عنه". 

وأضاف: "وتأكدت أكثر بعد هزيمة القراء في دير الجماجم أمام جيوش الحجاج، وتعرض أغلبهم للإعدام مثل سعيد بن جبير، والإذلال والإهانة فلم يكن أحدهم ينجو بعد وقوعه في الأسر إلا بأن يشهد على نفسه بالكفر ويتوب، وعندما بسط الاستبداد سلطانه بدأت أفكار الجبرية السياسية تنتشر، واعتزل الفقهاء ووجدوا لذلك تبريرات كثيرة". 

 

                         لخضر رابحي.. كاتب وباحث جزائري

وتابع حديثه لـ"عربي21" بالقول: "فقد اعتزل ابن بطة 40 سنة في بيته، واعتزل من قبل الإمام مالك، واعتزل الإمام أبو حامد الغزالي، والشيخ خليل الفقيه المالكي، وبعضهم غرق في فقه الوضوء والصلاة هروبا من الواقع السياسي، وقلة واجهت واستمرت، ونالها الأذى والسجن، لكن الثابت تاريخيا أن الواقع أكد استمرار الثورات ضد الظلم والاستئثار بالحكم إلى يومنا هذا". 

وأبدى رابحي أسفه على "تحول فكرة الجبرية السياسية مع الوقت إلى علم يدرس، وفقه ينشر بين الناس باسم الكتاب والسنة وأقوال السلف لاستعباد الناس وإذلالهم، بل والحكم عليهم بجهنم الآخرة بعد أن سلط عليهم الحكم جهنم الدنيا". 

ولفت إلى أن تلك الفكرة أنتجت حالة "من السلبية والانهزامية والتسليم والاشتغال بالعبادة هروبا من واجبات العصر في السياسة، وهو ما صنع الإنسان السلبي الذي يملك القابلية للاستعمار بتعبير مالك بن نبي، وهو إنسان ما بعد الموحدين، وهو مادة خطيرة ليست في صالح الوطن، ولا في خدمته". 

وذكر رابحي أنه "بعد انتهاء الخلافة الراشدة قامت ثورات كثيرة ضد الحكم، ففي عصر بني أمية أكثر من 300 ثورة، وفي العصر العباسي الأول والثاني أكثر من 700 ثورة ضد الحكم، واستمرت الثورات حتى العصر العثماني إلى عصر الدولة الوطنية بعد الاستقلال، وهو حال يثبت حاجة الأمة إلى تقييم موضوعي لتجاوز إكراهات الحكم، وفحص الذات لمعرفة العلل والأسباب". 

ووفقا لباحثين فإن الجبرية السياسية تجلت في سعي أنظمة الحكم المتعاقبة في الممارسة الإسلامية على إضفاء شرعية زائفة على الحاكم المتغلب، والذي لم يكن للأمة رأي ولا يد في اختياره، وهي مطالبة بالإذعان له، والخضوع لأمره، وليس لها إلا الصبر على ذلك، وتفويض الأمر إلى الله، وهو ما أفضي إلى تواري سلطان الأمة في اختيار من يحكمها، ومراقبة أفعاله ومحاسبته عليها، بذريعة ذلك المفهوم الزائف للقدر الذي نزع عن الإنسان اختياره الحر في أفعاله الاختيارية، وجعله عاجزا مقهورا.

وفي ذات الإطار أوضح الباحث الأردني المتخصص في السياسة الشرعية، الدكتور رامي عياصرة أن "مفهوم الجبرية كفرقة عقدية ظهرت بشكل واضح في فترة حكم بني أمية، وكما هو معلوم أن الفقه السياسي شكل أهم ميزات ودعائم الفرق العقدية، ومنها الجبرية، حيث عملت على شرعنة الاستبداد الأموي، وممارساته غير الشرعية من قتل الحسين، واستباحة مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومكة المكرمة متجاوزين كل المحرمات الشرعية" على حد قوله. 

 

                          رامي عياصرة.. كاتب وباحث أردني

وأردف لـ"عربي21": "فعملت العقيدة الجبرية على إسكات الناس، وإعطاء غطاء شرعي ديني لكل تلك الفظائع تحت قول أن العباد مجبورون على أفعالهم، وأن الله كتب عليهم أفعالهم وهم مسيرون غير مخيرين، وبالتالي فإن الإنسان يكون منزوع الإرادة وهو في ذلك كالريشة في مهب الريح". 

وواصل "ومن ثم يجب على المسلمين القبول بما وقع من فظائع الأمويين والتسليم لأفعالهم دونما اعتراض أو مقاومة أو محاولة لتغيير تلك المنكرات، ولا يجب إزاءها إلا الصبر عليها، والإنكار بالقلب على أبعد حد" لافتا إلى أن "التوظيف السياسي للمذاهب العقدية في كثير من وجوهها لم ينتهِ ما أدّى إلى تفاعل مذاهب أخرى مضادّة لها، شكلت حالة من ردة الفعل عليها، فظهرت في هذا السياق القدرية". 

ووصف عياصرة مفهوم الجبرية بالمطلق أنه "مفهوم مزيف ومخالف لمنطوق النصوص الشرعية ومفهومها التي جاءت بخلافها، إذ قامت حقائق العقيدة الإسلامية على أن من أمور الإنسان وأحواله لا إرادة له فيها، كجنسه وجنسيته وموطنه وقوميته وشكله وغيرها، وهذه لا تدخل في نطاق إرادته ولا يحاسبه الله عليها". 

وتابع "أما أفعال الإنسان وما يصدر عنه بالإراداة والاختيار فهو غير مجبر عليها، بل هو مخير فيها وغير مسير، ويحاسبه الله عليها، وإلا لما صح التكليف، ولما كان الحساب والعقاب، ولما نزلت الشرائع والرسالات، ثم إن إدخال بعض الناس النار يوم القيامة إذا كانوا مجبورين بالفعل على أفعالهم وليسوا مخيرين فيه ظلم كبير لهم، ومن المحال نسبة الظلم إلى الله". 

وبيّن العياصرة في ختام حديثه أن مما يساعد على تفكيك مفهوم الجبرية السياسية، ضرورة تكثيف الخطاب للكشف عن تهافتها في أساسها العقدي بما دلت عليه الآيات القرآنية بشكل صريح من تخيير الإنسان،كقوله تعالى: {فمن شاء منكم فليؤمن ومن شاء فليكفر}، وقوله تعالى: {منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة}، فالقرآن أثبت للناس إرادتهم الحرة، ومشيئتهم الفاعلة، وهي بالتأكيد لا تخرج عن مشيئة الله المطلقة، لكن الإنسان كائن حر مريد مختار، له اختياراته الحرة".