ما تصدره
الدراما السورية من مسلسلات البيئة الشامية بدءا من مسلسل "أيام شامية" الذي بث عام (1992)، وصولا "إلى
باب الحارة" على مدار السنوات، سمح بتشكل خوارزميات جديدة في إدراك وبصيرة فئة من الشباب السوري، فكانت هذه الدراما بمنزلة الإيحاء غير المباشر لهم، الذي عمل على بث وتثبيت جذور عقلية وفكرية جديدة، لا تمت لحقيقة الشعب السوري بِصلَة.
فشكلت هذه الخوارزميات قواعد مراوغة، حاولت دفع جيل من الشباب إلى التخلي عن جوهرهم الحقيقي ودورهم الأساسي في الحياة، وتقمص أدوار لم ولن تكون يوما عاكسة لحقيقة المجتمع الدمشقي الأصيل.
فالمادة المقدمة التي يفترض أن تكون ذات دلالة قيمة تعكس مفهوم الحياة والتجارب الإنسانية من ماضٍ مجاورٍ ليس بالبعيد، والتي كانت وستكون مصدر إلهام وتأثير إبداعي، تكاد لا ترقى عن مستوى الخداع والدجل، فما يعرض اليوم من إنتاجٍ متلاعبٍ ودميم، يحاكي تلك الفترة الزمنية؛ ساهم بشكل مباشر في
تشويه التاريخ الدمشقي بسيل من الأكاذيب المنافية للوقائع التاريخية الثابتة.
ففي عالم البيئة الشامية كمسلسل باب الحارة المبتدع، الذي يصور الحياة الدمشقية في عشرينيات القرن الماضي، يستعرض عالما منقسما إلى شطرين، أحدهم ضمن حدود المنزل والآخر يقبع خلف أبوابه ونوافذه، فيتسم الأول منه بالخضوع والمهانة المخفية خلف الحوارات المنمقة والآسرة، أما العالم الثاني المتمثل بباب الحارة وما بعده، يكاد أن يكون عالما قريبا أو في حقيقة الأمر بعيدا، شأنه شأن الأساطير الخيالية التي تسمع عنها ولا تراها، فمسألة تجاوز قوانين هذا العالم قد يكلفك الكثير.
وهذا بدوره أدى إلى انفصال حقيقي في المجتمع السوري، فدمشق بتاريخها الطويل، ما كانت تحيا خلف الأبواب المغلقة معزولة عن العالم، على إثر أوروبا في عصر الظلمات، بل كانت مدينة للعلم والتجارة والأدب الرفيع.
وعلى عكس الكوميديا السوداء التي تم تصديرها، فرجال وشباب دمشق "خاصة" وسوريا "عامة"، لم يتجولوا في أحياء دمشق ممسكين "الخنجر" في يدهم، ومتأهبين للقتال في أي لحظة وفي أي مكان، دفاعا عن عرضهم وأرضهم ضد الاحتلال الفرنسي، فالشباب السوري يومها كان أشد وعيا وتنظيما، وأكثر إدراكا لقيمة الحرية والنضال، وهذا ما نراه جليا بالعودة إلى التاريخ وتحديدا إلى معركة ميسلون في 24 تموز/ يوليو 1920، والثورة السورية الكبرى التي انطلقت في 21 تموز/ يوليو 1925 التي مهدت الطريق نحو الاستقلال في عام 1946. إلا أن خنجر باب الحارة مزق هذه الوقائع التاريخية وأغفلها، واستبدلها بـ"العقيد أبو شهاب" و"معتز" كرمز أسطوري للنضال السوري المزيف.
ولربما الأشد استهزاء، ما تم تصويره عن
المرأة والشابة السورية، التي بدت خانعة لا تعرف من الدنيا أبعد من حدود حارتها، ولا تفقه من العلم في أحسن الأحوال أكثر من الأبجدية، وهمها الأول والأخير وبحسب ما تم عرضه، هو تدبير المكائد بمن حولها من النساء، إلا أن هذا الزعم غير واقعي، فالمرأة السورية كانت خير مثال للرقي والعلم والحرية، حيث كانت المرأة ترتاد المدارس والجامعات وتشارك برأيها في الصحف والجرائد المحلية، ولا ننسى أول طبيبة سورية "ثبات الإسلامبولي" خريجة كلية "بنسيلفاني" عام 1890، التي تعدّ أولى الجامعات التي درست الطب للنساء في العالم.
فأين الاستقامة في هذا الزيف الذي تم زجه ليصور حياة الشابة السورية؟ وأين الحقيقة في فتيات خانعات لا يقوين على المطالبة بأبسط حق لهن ألا وهو التعليم، وذلك حسب ما تم عرضه في دراما البيئة الشامية؟
دمشق، كانت مدينة الأنوار ومهد العلوم والفكر الحر، وهذا منافٍ لدمشق الخاصة التي كانت وما زالت تعرض في المسلسلات الشامية.
لقد عرفت
سوريا الكهرباء منذ عام 1907 على يد أحفاد الأمويين الذين أمدوا دمشق بخطوط الكهرباء، وعرفت سوريا السينما منذ عام 1908 وأنتجت أول فيلم خاص بها عام 1928 تحت اسم "المتهم البريء"، كما سارت في دمشق أول عربة ترام في عام 1907، ناهيك عن قانون خاص لتسيير المركبات.
في سوريا، الندوات الثقافية والفكرية والمنشورات الأدبية لم تكن غائبة، فيعود تاريخ أول مطبعة فيها إلى عام 1706، التي أسست على يد البطريرك إثناسيوس دباس في حلب، وتوالت بعدها المطابع، وصولا إلى عالم الفن، فكانت تقام الحفلات على ألحان الموسيقى الغربية والشرقية.
دمشق، لم تكن كما وصفوها عبر تلك الدراما المزيفة، ففي النهاية ثمة خيط رفيع من الدخان يفصل العظمة عن الجنون، ونسمة هواء واحدة كفيلة بقطعه، فهل جاءت هذه النسمة على يد مؤلفي دراما البيئة الشامية ومنتجيها؟