أفكَار

مفكر تونسي: الخطاب الديني والسياسي السائد ليس حداثيا

المفكر التونسي عفيف البوني: مطلوب دعم قيم المساواة بين الجنسين وصحوة فكرية بعد كورونا (عربي21)

أصدر الباحث في تاريخ الأفكار وفي الحضارة العربية المفكر التونسي عفيف البوني مؤلفا علميا جديدا بدأه قبل 26 عاما أراد من خلاله تقديم "أول تفسير علمي" أو "أول تفسير غير فقهي وغير تراثي" للقرآن الكريم وللنصوص الدينية المقدسة عند غالبية المسلمين .
 
الكتاب صدر في حوالي 600 صفحة وأختار مؤلفه عفيف البوني أن يشبهه بـ "موسوعات الفيلسوف والكاتب الفرنسي "دنيس ديدرو" وغيره من فلاسفة التنوير في أوروبا في القرن 18، ووضعه تحت عنوان "انسيكلوبيديا القرآن ـ مصحف عثمان". 

ورغم الصبغة الأكاديمية للباحث في تاريخ الأفكار فقد كان البعد السياسي واضحا في موسوعة عفيف البوني عن القران الكريم. كما جمع فيها بين دراسة لغوية معمقة لنصوص قرآنية وللتاريخ وتطور الأفكار والأديان الفكر.
 
وأدرج الباحث في كتابه عددا كبيرا من الملاحق والوثائق المثيرة للجدل عن الحريات والاجتهاد والتجديد في الإسلام وفي الفكر السياسي المعاصر في تونس وعربيا وفي العالم .

الإعلامي والأكاديمي كمال بن يونس التقى عفيف البوني وفتح معه موسوعته عن القرآن وحاوره خصيصا لـ "عربي21"، حول أهم استنتاجاته الفلسفية والسياسية وقراءته للمتغيرات في تونس والوطن العربي والفكر الإسلامي و أدبيات المجددين العلمانيين ، بعد 10 أعوام عن انفجار "الثورات العربية" وبعد وباء كورونا:

 

 
س ـ أولا.. لماذا هذا الكتاب "انسيكلوبيديا" القرآن؟ ولماذا الآن؟ وهل كان متوقعا أن يخصص أكاديمي وسياسي عروبي علماني ورئيس حركة "البعث" بتونس سابقا ربع قرن لإعداده؟


 ـ فعلا قضيت عشرات السنين ببن البحث والكتابة وعملي في جامعة الدول العربية وفي الجامعات ومراكز الأبحاث والدراسات التونسية والأوروبية، ولم يكن متوقعا أن أخصص ربع قرن من مساري الأكاديمي لإحصاء "المصطلحات المفاتيح" في القرآن، ولتقديم قراءة علمية لـ "مصحف عثمان" .

صحيح أنني اهتممت بالتراث وتيار الهوية وكنت قبل حوالي 40 عاما ناشطا في حزب البعث العربي الاشتراكي في تونس وفي أوروبا، ثم ترأست حركة البعث التونسية لمدة قصيرة أواخر الثمانينات، كما زرت العراق ولبنان ومصر وكثيرا من الدول العربية.. وجمعتني علاقات صداقة مع المفكر والزعيم القومي البعثي ميشيل عفلق ورفاقه وتلامذتهم في فرنسا والعراق ولبنان ..

لكني لاحظت منذ عقود انتشار الفهم السطحي للتراث وللنصوص الدينية، بما تسبب في الترويج لمقولات غريبة ومواقف تدعم الغلو والانغلاق والعنف والإرهاب .. 

وقد لاحظت قبل أن أبدأ إعداد هذه الموسوعة التفسيرية للقرآن أن من بين ما يجمع التفاسير السابقة أنها اعتمدت غالبا مرجعيات فقهية وتراثية ودينية قديمة، فقررت أن أنجز أول تفسير علمي، يساهم في دفع العرب والمسلمين نحو العقلانية والتنوير والانفتاح والبراغماتية..

وفي هذه المرحلة التي انهارت فيها كثير من المسلمات الدينية والسياسية والثقافية عالميا أعتبر أن إعادة تفكير البشرية عموما والعرب والمسلمين خاصة في دلالات النص القرآني ورموزه مهم جدا ..

كتاب واحد 

س ـ قد يعتبر معارضوك أن تفسيرك للقرآن صدر من خارج "المنظومة الفكرية الإسلامية" وأنه لا يرتقي إلى مستوى تفاسير القرآن السابقة ..


 ـ من حقهم أن يقدموا انتقادات وملاحظات ومن حقي أن أؤكد أن كتابي هو " أول تفسير للقرآن وفق منهج علمي وبحث أكاديمي"..وأن الخطاب الديني السائد في العالم الإسلامي ليس عقلانيا ولا يواكب العصر.. 

 هذه الأنسيكلوبيديا في تفسير القرآن بمثابة "مكتبة جامعة في كتاب واحد"، جاء قسمه التفسيري في 538 صفحة، وأردف بـ 280 مادة و43 ملحقا .

في موسوعتي عن القرآن دراسة إحصائية، كيفا ومضمونا، فيها التعريف بالأنبياء القدامى والأديان والشخصيات وكل الكائنات والظواهر القرانية، كما وردت في وثيقة "مصحف عثمان" المدونة قبل 1366 سنة من الآن  .

ومن بين أهدافي من إنجاز هذه "الانسيكلوبيديا عن القرآن" بلورة قراءة علمية معاصرة تعيد للعقل العربي عموما والتونسي خصوصا الواقعية والتوافق مع الواقع والتاريخ والطبيعة .

هذه الأنسيكلوبيديا قدمت فيها عصارة جهد " تأليفي ـ تركيبي"  Synthèse من قبل مثقف تونسي عربي لم يقنعه ما حرره الرواة والمحدثون والمفسرون وبعض علماء الإسلام القدامى والجدد، وبينهم من تعمد عدم الخوض في بعض المسلمات بمنهج الفيلسوف والمؤرخ العقلاني .

وهذه الموسوعة مساهمة في تجاوز "الخطاب الديني والسياسي الإسلامي المحافظ والمتشدد" الذي انتشر في وسائل الإعلام وبين خطباء المساجد وبعض الأطراف المحسوبة على "الإسلام السياسي" والأجندات الدولية في المنطقة .

موسوعتي تتعامل مع "مصحف عثمان" عن القران باعتباره وثيقة تاريخية مهمة جدا يؤمن غالبية المسلمين بقداستها .

لقد بقي نص القرآن كما في مصحف عثمان أصيلا ثابتا لم يقع تحريفه ولا تصحيحه ، وقد روي عن الخليفة عثمان أنه أمر بإتلاف بقية "الروايات" والنصوص المنسوبة للقرآن.."حتى لا تختلط الأمور على المسلمين"..

ما الجديد؟

س ـ ماذا لو سألتك عن الجديد في هذه الدراسة الموسوعة / الانسيكلوبيديا؟ هل جاءت بالجديد فكريا وفسلفيا؟


 ـ التفسير الذي قدمته للقرآن في هذه الانسيكلوبيديا يضم شرح معاني الالفاظ الاصطلاحية القرانية مع تقديم نبذة مختصرة او موسعة لعدد من أسماء الإعلام والشخصيات والأقوام والمعالم والمدن وخاصة من الأنبياء السابقين والبلدان .. 

وقد قمت بتقسيم مادة هذا الكتاب إلى أبواب والى أقسام عديدة.

وقدمت الدراسة استنتاجات وملاحظات عن نظام حكم النبي محمد لسكان المدينة قبل حوالي 14 قرنا ونصف، وقراءات لكتب التوراة والأناجيل ولأسماء آلهة في حضارات وعصور قديمة.

كما عنيت في الملاحق وفي فقرات الدراسة المقارنة بالأوضاع الراهنة للعرب والمسلمين بعد صدور تشريعات وقوانين أممية عديدة عن حقوق الإنسان والتعددية الثقافية والدينية والجنسية والعرقية ضمن رؤية معاصرة ل"كرامة الإنسان في الثقافة الإنسانية الحديثة".

منطقة ألغام 

س ـ تاريخيا صدرت تفسيرات لم تتقيد بالمنهجية الفقهية والدينية التقليدية منها "المصحف المفهرس للقرآن".. فما هي إضافتك؟ ولماذا خضت مغامرة النفاذ على "منطقة مزروعة ألغاما"، من بينها الصراعات الفلسفية والفكرية القديمة الجديدة بين تيارات العقل وأنصار"تقديس المرجعيات الدينية والوحي"؟


 ـ من بين أهدافي وأهداف الباحثين التقدميين اليوم القطع مع ظاهرة " احتكار الحقيقة والكلام باسم الآلهة والأنبياء و الأديان". العلم تقدم اليوم وتقدمت كثيرا صناعات تكنولوجيا الإعلامية والاتصال والإحصاء الالكتروني..

ومن بين أهدافي من خلال إصدار هذا الكتاب البرهنة على كون زمن التكفير والتهجم على معتقدات المفكرين قد ولى.. بما في ذلك بالنسبة للسياسيين والفقهاء والباحثين والكتاب ممن أعطوا أنفسهم بدون وجه قانوني ومنطقي حق التكلم باسم الله والنبي أو باسم الدين والمقدسات.. وهم لا يملكون في حالات كثيرة الأهلية المعرفية .

لقد أثبتت الدراسات المضمونية والكمية والإحصائية للنصوص الدينية العالمية أن كتب القرآن والإنجيل والتوراة وغيرها نصوص متاح فهمها وتفسيرها لكل إنسان يمتلك المؤهلات المناسبة وهي لا تقتصر على من قد يسمون "علماء الدين" أو "فقهاء".

العالم دخل مرحلة جديدة بما في ذلك فيما يتعلق بحق الأكاديميين في تفسير النصوص المحسوبة على المقدس الديني.

ولم يعد واردا اليوم القبول بتفسيرات الفقهاء الذين أفتوا بغلق "باب الاجتهاد"، منذ القرن الرابع الهجري، وروجوا إلى مقولة "إجماع أهل الحل والعقد" (أي الفقهاء والخليفة) وزعموا أنه إجماع يلزم كل المسلمين في كل مكان وزمان .

استنتاجات 
 
س ـ رغم ذلك يبقى السؤال الكبير الذي سوف يواجهك من قبل الباحثين والإعلاميين المختصين: ما هي استنتاجاتك الختامية بعد 26 عاما من البحث والتحقيق والكتابة.. تمهيدا لإصدار هذه الموسوعة؟


 ـ أهم الاستنتاجات أن كل تفاسير الفقه للقرآن، وهي حوالي 60 تفسيرا، تكرر نفسها.. وتكرر روايات تنسب إلى رواة الحديث مثل البخاري ومسلم، أو إلى رواة الحديث ومراجع كتاب السيرة مثل أبي هريرة.. وأعتقد أن أغلب التفاسير الماضية اكتفت بالتجميع ولم تقدم فكرا صالحا لزمانها وللناس ..

التفسير الأهم للقرآن ولكل النصوص الدينية في نظري هو التفسير الذي يعتمد منهج العلوم الإنسانية، والعلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية ..قمت بتفسير الكلمات المفاتيح في القرآن وفي المصحف حسب لسان العرب.. وقمت بدراسة تاريخ الأفكار والمواقع وأسماء الأعلام وأسماء الأنبياء والظواهر الطبيعية والتاريخية كما وردت في نص القرآن وفي نصوص أخري علمية ..

وكان دوري أن أحث المفكرين والباحثين والمؤمنين على التساؤل وتجنب المسلمات ..

س ـ مثلا؟


 ـ تساءلت لماذا ذكر اسم النبي موسى 136 مرة في القرآن.. بينما ذكر اسم النبي محمد ذكر في القرآن 4 مرات فقط وورد مرة واحدة باسم أحمد ..لماذا ذكر اسم فرعون حوالي 70 مرة.. 

الجواب موجود في الكتاب.. على من أراد أن يفهم استنتاجاتي قراءته أولا بعمق ..ومن بين ما يلفت الانتباه أن النبي ابراهيم مذكور كثيرا في القرآن وفي كتب الأديان "الابراهيمية".. لكن بعض المؤرخين يعتبرون أنه شخصية غير موجودة تاريخيا ..

بعض الشخصيات مذكورة في القرآن فقط.. ولم ترد في بقية الكتب الدينية المسيحية واليهودية، ودور الباحث والمؤرخ والفيلسوف تفسير الأسباب في علاقة بعوامل عديدة من بينها أسباب النزول ..كما أثرت في الكتاب نقاط استفهام حول الروايات الدينية والعلمية حول السيدة مريم بين العلم والروايات الدينية ..

المتدينون والشأن العام؟

س ـ لماذا تبدو كثير الانتقاد للقراءات الدينية ولتزايد دور المحسوبين على المرجعيات الدينية في الشأن العام؟


 ـ أولا من حق المتدين أن يتدين ومن حق غيره أن يكون علمانيا وأن لا يتدين ..وليس هذا موضوع بحثي العلمي ..أولوية الباحث الأكاديمي التشجيع على عدم الخلط بين المنهج العقلاني العلمي والخطاب الديني الذي قد يتطور ليصبح تكفيريا ..

الأولوية اليوم بالنسبة لشعوبنا ودولنا يجب أن تكون للمقارنات والتصنيفات التي يحكمها العقل والعلم.. والكافر هو الجاهل من يقف ضد العلم.. ضد الفن والحقيقة العلمية والحريات بمقاييسها العلمية اليوم..

المساواة بين المرأة والرجل
 
س ـ نشرت في الجزء الأخير من كتابك عددا كبيرا من الوثائق والملاحق من بينها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ومشروع للجنة التي شكلها الرئيس السابق الباجي قائد السبسي برئاسة المحامية اليسارية بشرى بالحاج احميدة عن المساواة بين الجنسين.. ما هي الرسالة؟


 ـ فعلا نشرت ملاحق ووثائق يمكن أن تفيد الباحثين في علاقة بتفسير القرآن والخطاب الديني. وكانت رسالتي واضحة: الانحياز لحرية الضمير ولقيم المساواة بين المرأة والرجل ولمواثيق الأمم المتحدة عن الحقوق والحريات بصرف النظر عن الدين واللغة والجنس واللون ..

وقد نشرت وثيقة ما عرف في تونس بـ "لجنة المحامية بشرى بالحاج احميدة" تعبيرا عن انحياز لمسارها التحرري واعتراضا على ما تعرضت له وغيرها من الأكاديميين والحقوقيين من حملات تكفير وشيطنة من قبل خطباء مسيسين ومتحزبين عارضوا المساواة في الارث وفي بقية الحقوق بين الجنسين..

لقد تخلف العرب والمسلمون بنسق سريع منذ احتلال بغداد والعراق في 2003 بدعوى "تحريره"، ثم تعمقت أزمات قطاعات التربية والتعليم والثقافة والاقتصاد في أغلب المنطقة بعد ما سمي بـ "الربيع العربي".. وأصبحت دولنا ميدانا لحروب مدمرة خاصة في سوريا وليبيا واليمن.. ولحروب دولية بالوكالة أبطالها وضحاياها عرب ومسلمون ..

نحتاج إلى صحوة عقلانية فورية للخروج من النفق.. بدءا من طريقة فهمنا للقرآن والإسلام وللنص الديني..ولقيم التعددية والديمقراطية والمرجعيات الحقوقية ..

وبعد أن عمق وباء كورونا الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في بلداننا، لا بد من ثورة فكرية وتحرك فوري لإنقاذ شعوبنا ومجتمعاتنا وشبابنا من مخاطر استفحال ظواهر الأمية والجهل والسطحية والتطرف والإرهاب..