لا يمكن فهم شخصيّة الدّكتور
البوطي وتفسير مواقفه وأفكاره بعيدا عن سبرِ أغوار علاقته ومواقفه من جماعة
الإخوان المسلمين؛ التي كانت مكوّنا رئيسا في الحالة الدّعويّة والعلميّة الشرعيّة والسّياسيّة في
سوريا على مرّ عقود متعاقبة.
تحذيرات والده ملاّ رمضان وجدواها
يؤكّد الدّكتور البوطي على أنّ والده كان يحذّره من الانتماء إلى الجماعات والحركات، وكان هو بدوره يحذّر أبناءه من الأمر ذاته كما يقول متحدّثا عن أبيه في كتاب "هذا والدي":
"وكان قد سمع أنّ من دأبِ أبرز هذه الأحزاب والجماعات أن تقتنص الشّباب بل الأطفال من أُسَرهم، وتهوّن من واجب الإذعان لآبائهم والبرّ بهم كي يتيسّر إقناعهم بالانتماء إليهم والعمل معهم خفية عن آبائهم، أو بالتّمرّد على وصاياهم وأوامرهم.
فكان يخشى أشدّ الخشية أن يتسرّب هذا الأمر إلى بيته، وأن يقتَنص ابنه أو أحفاده من دائرةِ حكمه ونهج تربيته بمثل هذا السّبيل، فكان يوصيني ويحذّرني في كلّ مناسبة أن أكون مع جماعة المسلمين العامّة، وأن لا أستبدل بهذا الانتماء الذي أمر الله به أيّ انتماءٍ ضيّق، حتى إذا وثق بالتزامي بوصاياه واقتناعي بنصحه، أمرني بعد ذلك أن أكون رقيبا على أولادي الثّلاثة، فأتعقبهم وأفتّش في أوراقهم وأنظر ما في أدراجهم خوفا من أن يتسرّبوا أو يتسرّب واحدٌ منهم خفية، تحت سلطان هذا الأسلوب الذي يتبعه رواد تلك الجماعات بل الأحزاب، فينتمي إليهم ويتعاون معهم ويتمرّد أخيرا على أهله وأبويه.
لقد كنت أفعل هذا الذي يوصيني بل يأمرني به أبي، ولعلّ ذلك كان سببا من أهمّ أسباب حماية الله لي ولهم من اتّباع تلك السبل المنعرجة"..
وقد ذكر في تعليلات تحذير والده له من جماعة الإخوان المسلمين أنّها تتعامل بإقصائيّة مع المخالف لها والمختلف معها وتستعديه، كما أنّها تتعامل باستعلاء مع من لم يكن من أبنائها فتراه أقلّ درجة ومكانة، فيقول:
"وكان يرى في شعارين تتعامل معهما كبرى الجماعات أو الأحزاب الإسلاميّة أكبر شاهدٍ على ما يقول، أحدهما الشّعار القائل: "من لم يكن معنا فهو علينا" والآخر الشّعار القائل: من لم يكن منّا فهو مسلمٌ من الدّرجة الثّانية".
لكنّه كان في التّنظيم!
على الرّغم ممّا يذكره الدّكتور البوطي من تحذيرات والده له من الانتماء لأيّة جماعة لا سيما جماعة الإخوان المسلمين، وحرصه على عدم تسرّب أبنائه إليها، إلّا أنّ المعلومات تؤكّد بأنّ الدّكتور البوطي كان عضوا في تنظيم جماعة الإخوان المسلمين، وأنّه انتمى إليها فترة من الزّمن وقد بايع التّنظيم ليغدو من أعضائه.
ومن الذين أكّدوا هذه المعلومة اثنان من كبار شخصيّات جماعة الإخوان المسلمين في سوريا، الأوّل كان رئيس مجلس الشّورى العام لجماعة الإخوان المسلمين لدورتين، إذ كرّر في مجالس عديدة أنّ الدّكتور البوطي كان عضوا في التّنظيم، وأنّه كان يحضر معهم الاجتماعات التّنظيميّة الخاصّة بالعمل الدّعوي والتّربوي في الجماعة.
كما أكّد هذه المعلومة أحد علماء سوريا (توفي عام 2011)، من الرّعيل الأوّل في جماعة الإخوان المسلمين في سوريا، وكان يعمل في مصر مع الإمام حسن البنّا، مؤسّس الجماعة، ثمّ في سوريا مع الدّكتور أمين المصري والدّكتور مصطفى السّباعي والأستاذ عصام العطّار. وقد أكّد للعديدِ من جلسائِه أنّ الدّكتور البوطي بايع تنظيم الإخوان وكان عضوا في الجماعة، وكان يحضر الاجتماعات التنظيميّة. وكان هذا القيادي يذكر تفصيلات بعض الاجتماعات التي حضرها الدّكتور البوطي بوجود الدّكتور السّباعي وأماكنها وبعض أحداثِها.
ومن خلال المعلومات المتقاطعة يمكننا تأكيد أنّ الدّكتور البوطي كان عضوا في جماعة الإخوان المسلمين في المنتصف الثّاني من خمسينات القرن الماضي، وبقيت علاقته متينة مع الإخوان إلى أواخر سبعينيات القرن الماضي؛ فقد بدأت الخصومة عقب 1979م على إثر أحداث مدرسة المدفعيّة.
وأمّا في ما يتعلّق بأبنائه، فلا يمكن تأكيد انتماء أحدٍ منهم إلى جماعة الإخوان المسلمين، غير أنّ ممّا يمكن تأكيده هو أنّ ابنه الأكبر محمّد توفيق الذي غدا عقب اغتيال والده عميدا لكليّة الشريعة في جامعة دمشق وخطيبا لجامع بني أميّة، وهو من مواليد عام 1949م؛ كان معجبا بشدّة في شبابه بالشّيخ مروان حديد أحد أبرز الشخصيّات الإخوانيّة في سوريا، وكان كثير الزّيارة له مواظبا على لقائه، وغالبا ما كانت هذه اللّقاءات تتمّ خفية عن أبيه الدّكتور البوطي.
تعميمات إخوانيّة متعلّقة بالدّكتور البوطي
كانت جماعة الإخوان المسلمين في سوريا تعمّم على أعضائها في الفترة ما قبل عام 1979م بضرورة حضور دروس الدّكتور البوطي في مسجد السّنجقدار بدمشق.
كما أنّ الإخوان المسلمين كانوا يعتمدون بعض كتب الدّكتور البوطي في حلقاتهم الإخوانيّة "الأُسَر التّنظيميّة".
ففي مصر كانت الجماعة الأم تقرّرُ كتاب "فقه السّيرة"، وكذلك كانت تعتمده العديد من تنظيمات الإخوان المسلمين في عدد من البلدان في مناهجها التربويّة.
وفي سوريا كانت جماعة الإخوان المسلمين تعتمد كتاب "كبرى اليقينيات الكونيّة" وكتاب "فقه السّيرة" في الحلقات والأُسَر التنظيميّة.
تواصُل على الرّغم من الخصومة
مع بداية ثمانينيات القرن الماضي، اشتدّت خصومة الدّكتور البوطي مع جماعة الإخوان المسلمين، وامتدّت هذه الخصومة العنيفة إلى آخر حياته، وكانت سببا في الكثير من مواقفه التي نتعرّض لها بالتّفصيل لاحقا بإذن الله تعالى.
ولكنّه بقي في خضمّ خصومته للجماعة على تواصل مع بعض رموزها الذين يكنّ لهم إعجابا استثنائيّا، وفي مقدّمتهم الشّيخ عبد الفتّاح أبو غدّة الذي كان إضافة إلى كونه عالما فذّا في الحديث النبويّ؛ المراقبَ العام لجماعة الإخوان المسلمين في سوريا، وقد استمرّت المراسلات بينهما إلى وفاة الشّيخ عبد الفتّاح، وكان الدّكتور البوطي كلّما صدرَ له كتابٌ أهداه للشّيخ عبد الفتّاح مشفوعا بعبارات الإهداء الدّالّة على عمق المودّة والعلاقة بينهما.
كانت خصومة الدّكتور البوطي لجماعة الإخوان المسلمين في مرحلة ما بعد الثّمانينيات أشدّ بكثيرٍ من خصومته للسلفيّة "الوهّابيّة"، ولكنّ انفصام عرى العلاقة التّنظيميّة وتحوّلها إلى حالةٍ من العداء المتبادل لا ينفي مطلقا أنّ هناك علاقة فكريّة وتداخلا منهجيّا قويّا بين الدّكتور البوطي وجماعة الإخوان المسلمين.
تفصيلُ الحديث عن هذه العلاقة الفكريّةّ ونقاط الالتقاء والافتراق في المنهج والأفكار بين الدّكتور البوطي وجماعة الإخوان المسلمين سيكون - بإذن الله تعالى - في المقال القادم.
twitter.com/muhammadkhm