أفكَار

الجرائم البشعة.. لماذا تتجاهل النخب شروط الأمن الاجتماعي؟

أي دور للمثقف العربي في مواجهة تفشي الجرائم؟ (الأناضول)

اهتز الشارع في كلّ من تونس والمغرب والأردن ومصر خلال الأسابيع القليلة الماضية على جرائم مروّعة، أثارت صدمة مجتمعيّة وأمنية كبيرة وخلّفت استياء شعبيا غير مسبوق على وسائل التواصل الاجتماعي. فمن جريمة اختطاف شابّة بضاحية "عين زغوان" وقتلها ثم التنكيل بجثتها، شمال العاصمة تونس أواخر شهر أيلول (سبتمبر) الماضي، مرورا بجريمة استدراج الطفل عدنان ذي الـ11 سنة،  بمنطقة "بني مكادة" بمدينة طنجة المغربيّة، والاعتداء عليه جنسيا قبل قتله ودفن جثته بمحيط سكنه، فجريمة بتر ساعدي حدث لم يتجاوز الـ16 سنة من عمره وفقء عينيه، بمحافظة الزرقاء بالأردن، ووصولا إلى جريمة التحرَّش بمريم محمّد ثُمَّ قَتلها وسحل جُثَّتَها بالسيارة عشرات الأمتار... قبل شهر من زفافها... في مصر. فقد تعددت مسارح الجريمة والصدمة واحدة.

لئن صاحب تطوّر معدّلات الجريمة البشعة وارتفاعها بأغلب المجتمعات العربيّة، صيحات شعبية منادية بضرورة تشديد العقوبات الجزائية وإنفاذ حكم القصاص في مرتكبي هذه الجرائم، بالرغم من رفض بعض الجمعيات الحقوقيّة وتنديدها بما اعتبرته مسّا بالحرمة الجسديّة للضحايا ومطالبتها المستمرة بما تقول إنّه أنسنة للعقوبة الجزائية، فإنّ منشطا أمنيا وبحثيا في مجال سوسيولوجيا الجريمة ومقاربات معالجتها، بات يقرّ بخطورة التحولات الخطرة في نوعية الجريمة وأدواتها، في مجتمعات عربيّة محافظة لم تتعودّ على مثل هذه الوتيرة من الجرائم البشعة إلاّ لماما. 

بيد أنّه على أهميّة البحوث المختصّة ومقارباتها التقنية، في ظلّ عجز المقاربة القانونية وحدها على محاصرة ظاهرة الإجرام، وتوصيتها بواجب اعتماد مقاربة شمولية تأخذ بعين الاعتبار المقاربة القيمية، وفق تأكيد يحيى شوطي، الباحث المغربي في قضايا الهويّة والثقافة، فإنّ تكرّر هذه الجرائم في مجتمعات انتقاليّة تركت وراء ظهرها حقبا من دكتاتورية الحكم، وقطعت أشواطا مهمّة من الانفتاح بما يسمح لها بتناول قضاياها المجتمعيّة الحارقة بعيدا عن الصّنصرة، من شأنه أن يدفعنا للتساؤل عن مدى اهتمام المثقف والسياسي في مجتمعات ما بعد ثورات الربيع العربي بمبحث الأمن الاجتماعي، ويجعل من الأهمية بمكان الحفر في الجوانب القيمية والتربوية المساعدة على تفشي الجرائم الخطرة. 

ضعف استراتيجي في بناء مقاربات مكافحة الجريمة

يتساءل الدكتور يسري الدّالي، أستاذ علم النفس الاجتماعي بالمعهد العالي للعلوم الإنسانية بتونس، في تصريح لـ"عربي21"، عن مدى جدّية جهاز الدّولة في كلّ من تونس والمغرب والأردن وباقي الدول العربية في مكافحة الجريمة المنظّمة، ذلك أن مناهضة الجريمة وفق قوله تتطلّب سبع مقاربات: تتمثل أولاها في تركيز سياسة مقاومة الإجرام، ثم النّظر لاحقا في كلّ ما له صلة بتطوير مجلّة الإجراءات الجزائية وتحيينها. وشدد على أنّ تطوّر المجتمع وجرائمه يفرضان الإسراع بإعادة كتابة المجلة الجزائية برمّتها. وتمثل قطر والإمارات الاستثناء العربي في مجال مكافحة الجريمة المنظّمة، لما قامتا به من استنساخ محمود للتجارب الغربية النموذجيّة في المجال، يضيف الدّالي.

 



في ذات السياق يشير الدّالي إلى أنّه بات لزاما على الدّول العربيّة التي تعاني من ارتفاع مطّرد في معدّلات الجريمة البشعة الاشتغال أكثر على دمج المقاربات الشاملة في مكافحة الجريمة، من ذلك علم أنثروبولوجيا الجريمة، الذي يدرس مظاهر المجرم وتركيبته البدنية والجسدية، والطب النفسي للجريمة، الذي يُعني بالمجرمين ذوي الأمراض العقلية والنفسية، وعلم النفس الإجرامي، الذي يدرس التمشّي النفسي للجريمة قبل ارتكابها وبعدها، وعلم جغرافيا الجريمة، الذي يبحث تأثير المناخ على الجريمة، وعلم إحصاء الجريمة وعلم الضحيّة. 

وأضاف: "إنّ أي سياسة لا تراعي هذه المقاربات المختلفة سوف تظل قاصرة عن فرملة الارتفاع البيّن لنسب الجريمة البشعة في مجتمعاتنا المحافظة". 

ولفت النّظر إلى أنّ الفقر والجهل وغياب السياسات والاستراتيجيات والإمكانيات تظلّ العوامل المحدّدة في ارتفاع نسب الجريمة. وأنه من المؤسف أن تكون دولة السودان من بين أخطر خمس بلدان في العالم من حيث انتشار للجريمة، بحسب إحصاءات دولية لسنة 2016.

في علاقة المنظومة التربوية بتطوّر معدّلات الجريمة

يؤّكّد الدكتور الدّالي على العلاقة الوثيقة بين تطوّر معدّلات الجريمة البشعة وتحسّن جودة المنظومة التربوية، وخير دليل على ذلك هو الانخفاض البيّن لمعدّلات الجريمة داخل الدّول الاسكندينافية التي باتت تمثل مجموعة الدول الأرقى في مجالي التربية والتعليم. ولم يعد خافيا انهيار المنظومات التربويّة ببعض الدّول العربيّة، تونس على وجه الخصوص، حيث ارتفاع نسبة الانقطاع المدرسي في مقابل ضعف نسب الإدماج، وهو ما يضاعف من مكامن الجريمة. مضيفا أنّ تدارك هذه النقائص التربوية يتطلّب جهدا أكبر في تعزيز العملية الثقافية والرياضية وتنويع الأنشطة المجتمعية والمدنية والثقافيّة، على أمل استيعاب أكثر لجيل كامل بات ضحيّة لإرهاصات الثورة وعسر الانتقال الديمقراطي، الذي فرض غلبة الآني السياسي عمّا سواه من معالجات اجتماعية واقتصاديّة ضروريّة.

النمذجة السيئة طريق إلى الجريمة البشعة

يشير الدّالي إلى أنّ الانفلات الإعلامي الذي عقب الثورة في تونس، وما رافقه من غياب لآليات التعديل الذاتي لجودة المضامين الإعلامية، ساهم في "نمذجة" (أنموذج) الجريمة. فتسويق أعمال درامية مثل "علي شورّب" و"أولاد مفيدة" والاحتفاء المبالغ فيه بنماذج شبابيّة من قبيل "ولد الكانز" ترافق بارتفاع في معدّلات الجريمة نظرا لوقوع الشباب في مصيدة تقليد هذه النماذج الاجتماعية العنيفة، وهو ما يعبّر عنه في علم النفس الاجتماعي بـ"النمذجة السيئة" ( CONCEPT DE MODELING). 

 



من جهته يتساءل منصف السلايمي، الباحث في الفلسفة، في تصريح لـ "عربي21"، أن "كيف ﻟطﻔل أن ﯾﻧﺷﺄ ﻋﻠﻰ ﺧﻠق طﺑﯾﻌﻲ وھو اﻟذي ﺗرﺑّﻰ ﻋﻠﻰ ردّ اﻟﻔﻌل اﻵﻟﻲ اﻟﻣﺑﺎﻟﻎ ﻓﻲ ﺗﺻوّر اﻷﺳﺎﻟﯾب اﻟﻌﻧﯾﻔﺔ ﻣﻊ "ﺗوم وﺟرّيّ"، وﺗرﺑّﻰ ﻋﻠﻰ وﺛﺎﺋﻘﻲ اﻟﺣﯾواﻧﺎت ﻋﻠﻰ فضائيّة "ﻧﺎﺷﯾوﻧﺎل ﺟﯾوﻏراﻓﯾك أﺑو ظﺑﻲ" ﺑدﺑﻠﺟﺔ ﻣُﺿﻠﻠﺔ ورﻛﯾﻛﺔ ﺗﻘرع ﻣﺳﻣﻌﮫ ﺑﻛﻠﻣﺎت ﻣن ﻧوع "اﻟﻘﺗل" و"إﻣّﺎ أن ﺗﻘﺗل أو ﺗﻣوت" أو "ﻻ ﻣﻛﺎن ﻟﻠﺿﻌﻔﺎء" ﻟﻌﺷرات اﻟﻣرّات ﻓﻲ وﺛﺎﺋﻘﻲ واﺣد ﻣﻊ إﺳﻘﺎط ﻣﺗﻌﻣّد ﻻ تخطئه ﻣﻼﺣظﺔ اﻟﺧﺑﯾر ﻟزﻣرة اﻷﺳود أو اﻟﺿﺑﺎع وﻗطﻌﺎن ﻓراﺋﺳﮭﺎ ﻋﻠﻰ اﻟﻣﺟﺗﻣﻊ اﻹﻧﺳﺎﻧﻲ إﻟﻰ ﺣدّ إﺳﻧﺎد أﺳﻣﺎء ﺷﺑﮫ آدﻣﯾﺔ ﻋﻠﻰ أﺑطﺎﻟﮭﺎ. أو وﺛﺎﺋﻘﯾﺎت ﻣﺳﺗﻣرّة ﻋن اﻟﻌﻧف ﻓﻲ اﻟﺳﺟون اﻷﻣرﯾﻛﯾﺔ. وﻣﺣﺎوﻻت اﻟﮭرب ﻣﻧﮭﺎ، ﻛﻣﺎ أﻧﮫ اﻟذي ﺗرﺑّﻰ ﻋﻠﻰ ﯾد ﻣﻌﻠم ﯾﻣﻧﻌﮫ اﻟﻘﺎﻧون ﻣن اﻟﻌﻘﺎب. وﺗرﺑﻰ ﻋﻠﻰ ﻓﻧون ﺗﺿﺧّم ﻋﻘدة اﻷﻧﺎ وﻻ ﻣوﺿوع ﻟﮭﺎ إﻻ اﻟﺟﺳد واﻟﺗﻔﻠت اﻟﻘﯾﻣﻲ ﺣﺗﻰ أﺻﺑﺢ ﻋﻧف اﻟﺷوارع ﻗﯾﻣﺔ (ﻣﺳﻠﺳل ﻋﻠﻲ ﺷورّب اﻟﺗوﻧﺳﻲ ﻧﻣوذﺟﺎ) ورﻓﻘﺔ اﻟﺳوء ﻗﯾﻣﺔ (ﻣﺳﻠﺳل أوﻻد ﻣﻔﯾدة ﻧﻣوذﺟﺎ)"... 

ويضيف: "إنّ اﻟﺗﺻوّر اﻟﻔﻠﺳﻔﻲ اﻹﺳﻼﻣﻲ ﻟﻠﻘﯾم ﯾﻧﺟرّ ﻋﻧﮫ ﻛون اﻟﺗرﺑﯾﺔ ﯾﺟب أن ﺗﺳﺗﮭدف اﻟﺟﺎﻧب اﻟذھﻧﻲ ﻟﻺﻧﺳﺎن ﻣﻧذ ﻣﺳﺗوﯾﺎت اﻟﺗﻌﻠﯾم اﻷوﻟﻰ: اﻟوﻋﻲ اﻟذھﻧﻲ ﺑﺎﻟﺣﺿور اﻟﻣﺎدّي واﻟوﺟداﻧﻲّ ﻓﻲ اﻟﺗﺟرﺑﺔ اﻟﯾوﻣﯾﺔ".

من جهته، وبالرّغم من تحميله المثقفين جزءا من المسؤولية الأدبيّة والأخلاقيّة، فإنّ يحيى شوطي يلقي باللائمة الكبرى على مجمل المنظومة الإعلامية التي "باتت تلمّع مشاهير التفاهة وهو ما ساهم في بروز موجة الإعلام المتهافت والمفتقد لأي رسالة إعلامية نبيلة، كل ذلك ساهم بشكل قوي في عزلة الثقافة وأهلها، فتجد تهافتا على عاهة تنشر السخافة، في مقابل عدم اهتمام رهيب بأعلام الثقافة والفكر، مما يجعلنا نخلص إلى خلاصة مؤداها أن تحميل المثقفين هذه المسؤولية لوحدهم فيه إجحاف بيّن".

 



ويؤكّد يحيى شوطي على ضرورة تصدّي المثقفين لموجة التفاهة المعولمة، من خلال تنويع أساليب ترويج الفكر والثقافة، وعدم الانكفاء على الأساليب التقليدية والتي أتبث الظروف الحالية محدوديتها وعدم قدرتها للنفاذ خاصة لأوساط الشباب والمتعلمين.

القيم الإسلامية حصن ضدّ الجريمة

يؤكّد الدكتور نور الدّين بن محمود الننّاش، الأستاذ بجامعة الزيتونة في تصريح لـ "عربي21"، على أثر القيم الإسلاميّة في الوقاية من الجريمة. ذلك أنّ الإسلام دين القيم والمعاملات الإنسانيّة الرّاقية. بل إن رسول الإسلام لخّص جوهر دعوته في هذه الحقيقة حينما قال صلّى الله عليه و سلّم: (إنّما بعثت لأتممّ صالح الأخلاق ـ مسند أحمد: 8729) و قد رسّخ الإسلام هذه القيم الإنسانيّة في نفوس معتنقيه منذ بدء الدّعوة في مرحلتها المكيّة، التي كان هدي الإسلام فيها متّجها لترسيخ مبادئ العقيدة وتزكية النّفس بواسطة التحلّي بفضائل القيم، ثمّ تدعّم هذا المنحى القيمي في المرحلة المدنيّة.

في ذات السياق ينوّه الدكتور نور الدّين بن محمود الننّاش بأنّ القيم الإسلاميّة تتّسم بالواقعيّة والشّمول. فهي ليست متعالية عن التّطبيق، بل هي قيم منسجمة مع واقع الإنسان وبنيته الفكريّة والوجدانيّة متماشية مع فطرته التي فطره الله تعالى عليها لأنّها متأتّية من عقيدته الدّينيّة، فالدّين برمّته مبنيّ على هذه الخاصيّة. ويقول عزّ وجلّ في الآية 30 من سورة الرّوم: "فأقم وجهك للدّين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدّين القيّم و لكنّ أكثر النّاس لا يعلمون". 

ومن أجل ذلك ساهمت قيم الإسلام في الوقاية من كلّ أسباب الانخرام الاجتماعي وبالأخصّ تقليص الجرائم بفضل بعدها الوقائي لأنّ الالتزام بها يقي الفرد الأزمات النّفسيّة والانحرافات السّلوكيّة، كما يقي المجتمع من الانزلاق إلى الصّراعات والفوضى والعنف و التطرّف وشيوع الجريمة. 

 


ويقول الننّاش: "هناك جملة من القيم الوقائية التي دعا الإسلام إليها بقصد التحلّي بها لترسيخ مبدأ التّواصل الإيجابي مع الغير ومنع كلّ أشكال الصّراع والغلوّ في التصرّف، وهي لا تختصّ بمجال معيّن من العلاقات الاجتماعيّة بل تشمل جميع أنواع التّواصل مع الآخرين. كما إنّ تفعيل هذه القيم وربطها بإيمان المسلم وعقيدته الدينيّة من شأنه أن يجنّب المجتمعات ما نشاهده اليوم من ارتفاع منسوب الجريمة والاستخفاف بالحرمات وخاصّة منها حرمة النفس البشريّة.

ويدعّم يحيى شوطي ما ذهب إليه نور الدّين الننّاش من تأكيد على مركزية القيم في الحد من الجريمة والوقاية منها بالقول إنّ "الخدوش التي طالت لُحمة المنظومة القيمية التي تجمع العلاقات الأسرية والعائلية في المجتمع، لها علاقة وطيدة بهذا التنامي. إضافة إلى العلل التي باتت تعاني منها المنظومة الأسرية، خاصة ارتفاع نسب الطلاق، وما يترتب عنها من تفكك الأسر وما يسببه من تأثير بالغ على الأبناء، وحرمانهم من الدفء الأسري مما يجعل الكثير منهم عرضة لتعاطي المخدرات الخطيرة، واستغلالهم في شبكات بيع المخدرات، وتعرض عدد منهم للاغتصاب، كل هذا يسبب في بروز جيل حاقد، وعنيف ما يجعل منه مشتلا لمثل هذه الجرائم البشعة".

استنبات مفاهيم سطحيّة للتربية

يرى منصف السلايمي، الباحث في الفلسفة، في تصريح لـ "عربي21"، أنّ الدّولة الحديثة اﻋﺗﻣدت ﻋﻠﻰ ﻧﺧب اﺳﺗﻧﺑﺗت ﻣﻔﺎھﯾم ﺳطﺣﯾﺔ ﻟﻠﺗرﺑﯾﺔ، ﻟﻌلّ ﻣن أﺧطرھﺎ ﻣﻔﮭوم اﻟﺣرﯾﺔ. ﻛﻣﺎ ﺟرّھﺎ ﻣوﻗﻔﮭﺎ اﻟﺳﻠﺑﻲ ﻣن اﻟﻠﻐﺔ واﻟدﯾن اﻷھﻠﯾﯾن ﻟﻘﺗل ﻗﯾم ﻣﺟﺎھدة اﻟﻧﻔس واﻟرﻗﺎﺑﺔ اﻟذاﺗﯾﺔ، وﻓﻘدان أداة اﻟﺗواﺻل اﻟطﺑﯾﻌﯾﺔ (اﻟﻠﻐﺔ ﻟﻠﻌﻠم واﻹﻋﻼم وﻣﺎ ﺗﻧطوي ﻋﻠﯾﮫ ﻣن ﻧظﺎم ﺗﺻوّر ﻟﻠﻛون وﻣﻣﺎرﺳﺔ ﻟﻠﺗﻔﻛﯾر). وھﻲ ﻣواﻗف ﻣوروﺛﺔ ﻋن اﻻﺳﺗﻌﻣﺎر اﻟﻐرﺑﻲ اﻟذي اﺿطرّ ﻻﺳﺗﺣداث ﻟﻐﺎت ﻛﺎﻟﻔرﻧﺳﯾﺔ واﻻﻧﺟﻠﯾزﯾﺔ وﻏﯾرھﺎ ﻻﺳﺗﯾﻌﺎب واﻗﻊ ﻟﻘﺎﺋﮫ ﻣﻊ اﻟﻣﺳﻠﻣﯾن وﺗطورھم اﻟﻌﻠﻣﻲ ﻓﻲ اﻟﻘرون اﻟوﺳطﻰ، ﻛﻣﺎ ﺳﻌﻰ ﻟﻠﺗﺣرّر ﻣن ﻗﯾم ﻛﻧﺳﯾّﺔ ﺗﻘوم ﻋﻠﻰ ﺗرذﯾل اﻟطﺑﯾﻌﺔ واﻟﺟﺳد وﺗﻣﻧﻊ أﺑﺳط طﻘوس اﻟﻧظﺎﻓﺔ واﻟﻠذة اﻟﻣﺷروﻋﺔ وﺗﻘف ﻋﺎﺋﻘﺎ أﻣﺎم اﻟﻌﻠم. 

ويضيف السلايمي، أنّ الخطر في ما سبق ذكره هو أنّ هذا الواقع التربوي المرير أعقب لنا ﻧﺧﺑﺎ هجينة متنفذة ﻓﻲ اﻟﺗﻌﻠﯾم واﻹﻋﻼم واﻹدارة، لم تع بعد أنّ اﻟﺣرﯾّﺔ ﻻ ﻣﻌﻧﻰ ﻟﮭﺎ إﻻ ﻓﻲ ﻣﻘﺎوﻣﺔ ظواھر ﻣﺛل اﻻﺳﺗﺑداد واﻻﺳﺗﻌﻣﺎر ﻷﻧﮭﻣﺎ ﺿرب ﻣن اﻹﻓﺳﺎد ﻟﻠﻔطرة واﻟطﺑﯾﻌﺔ؟

"الحيونة" إرث الاستعمار والدكتاتوريّة

يقول السلايمي إنّه جرى ﺗرﺑﯾﺔ اﻷﺟﯾﺎل العربيّة ﻋﻠﻰ ﺗﻘدﯾس اﻟﺣرﯾّﺔ ﺑﻣﺎ ھﻲ ﻓرض ﻟﻺرادة اﻟذاﺗﯾﺔ ﻓﻲ ﻣواﺟﮭﺔ اﻟﻣﺟﺗﻣﻊ وﻣﺳﻠﻣﺎﺗﮫ اﻟﻘﯾﻣﯾﺔ. واﻗﺗﺻر اﻟدرس اﻟﺗطﺑﯾﻘﻲ ﻟﮭذه اﻟﺗرﺑﯾﺔ ﻋﻠﻰ اﺳﺗﻌراض اﻟﺟﻣﺎل اﻟﺟﺳدي والاستمتاع ﺑﺎﻟﺟﻧس واﻟﺑﺣث ﻋن اﻟﺗرﻓﯾﮫ واﻟﻣﺗﻌﺔ واﻟﺛروة وﻣﺎ ﺷﺎﺑﮫ ذﻟك إﻟﻰ ﺣدود اﻟﺗطرّف. ﻓﺗرﺑّﻰ اﻟطﻔل اﻟﻔﺎﻗد ﻵﻟﯾﺎت اﻟﺗﻔﻛﯾر واﻟﺗواﺻل ﻋﻠﻰ ﯾد معلّم ممنوع من العقوبة الماديّة. وأصبح القسم مِخبر تربية على التمرّد بلا رادع والتوجيه نحو إشباع الإرادة. فماذا بقي من الإرادة؟

 

ويضيف السلايمي: "هذا النّوع من التربية ﯾﻘود ﺣﺗﻣﺎ إلى "ﺣﯾوﻧﺔ" اﻹﻧﺳﺎن. ﻓﺎﻹرادة اﻟﻣﻔﺗرض ﻓﯾﮭﺎ أن ﺗﻛون ﻧﺗﯾﺟﺔ اﻟﻌﻣﻠﯾﺎت اﻟذھﻧﯾﺔ وﺣﺳﺎﺑﺎت ﻣﺎ ﯾﺟب وﻣﺎ ﻻ ﯾﺟب ﺑﺎﻟﻌﻠم درﺳﺎ واﻗﺗداء، ﺗﻧزل ﻷدﻧﻰ ﻣﺳﺗوى ﻣﻣﻛن: ﻣﺎ أرﻏب ﻓﯾﮫ وﻣﺎ لا أرﻏب فيه. واﺣﺗﯾﺎطﯾﺎ ﻛﯾف أﺗﺟﻧّب اﻟﺗّﺑﻌﺎت اﻟﻘﺎﻧوﻧﯾّﺔ اﻟﻣﺗرﺗﺑﺔ. وھذا ﺑﺎﻟﺿﺑط ﻣﺳﺗوى ﺗﻔﻛﯾر اﻟﺣﯾوان، ﻛﯾف ﯾﺗﺟﻧب اﻟﻣوت، ﻛﯾف ﯾﻔوز ﺑﺎﻷﻧﺛﻰ، ﻛﯾف ﯾﺳﯾطر ﻋﻠﻰ ﻣﺟﺎل اﻟﻧﻔوذ وإن ﻟزم اﻷﻣر ﻛﯾف ﯾﻘﺗل ...".

وقد لاقى ﻣﺷروع "اﻟﺣﯾوﻧﺔ" ھوى ﻓﻲ ﻧﻔس اﻟﻣﺳﺗﻌﻣر. ﻓﺎﻟﻘطﯾﻊ ﺿﯾﻌﺔ وﻣﻠك، واﻟﻣﺟﺗﻣﻊ ﻣﻧﺎﻓس وﻧظﯾر. وﻟذﻟك وﺟد ﻣﺷروع اﻟﺣﯾوﻧﺔ ﺗﺷﺟﯾﻌﺎ ﻣﻧﻘطﻊ اﻟﻧظﯾر ﺑﺎﻷﻣوال واﻟﺗﻛوﯾن ﻓﻲ اﻟﻣﻧﺎھﺞ واﻟﺟﻣﻌﯾﺎت. وﻟم ﺗﺳﻠم ﻣﻧه إﻻ ﻗﻠّﺔ ﻣﺗﻣﯾّزة ﻣن اﻟﺷﺑﺎب اﻟﻌرﺑﻲ، أﻓﻠﺗت ﻣن اﻟﺗﺻﺣﯾر اﻟﻌﺎم ﻟﻠﺗرﺑﯾﺔ واﻟﺗﻌﻠﯾم ﺑﺟﮭود اﻟﻘﺎدرﯾن ﻣن اﻷوﻟﯾﺎء ﺗرﺑوﯾﺎ وﺗﻌﻠﯾﻣﯾﺎ، ﻟﺗﺗﻠﻘّﻔﮭم ھﺟرة اﻷدﻣﻐﺔ أو اﻟﻣوت اﻟﺑطيء ﻓﻲ وظﺎﺋف إدارﯾﺔ ﺗﻧﻔﯾذﯾﺔ.

 

الجرائم البشعة تسبب ندوبا غائرة في الشعور الجمعي

يرى يحيى شوطي، الباحث في اللسانيات الاجتماعيّة والتخطيط اللغوي وقضايا الهويّة والثقافة في تصريح لـ "عربي21"، أنّ المقلق في هذه الجرائم العنيفة هي تلك التي تمس بالإحساس بالأمن والتي تسبب ندوبا غائرة في الشعور الجمعي للمغاربة. وقد تابعنا جميعا في الآونة الأخيرة بروز نوع من الجرائم العنيفة جدا والمرتبطة باغتصاب الأطفال وقتلهم، وكذا جرائم قتل الأصول وغيرها من الجرائم البشعة التي لم يألفها المجتمع المغربي، أو على الأقل لم يطبع معها.

ويضيف يحيى شوطي، أن تنامي نسب الإجرام خلال السنوات الأخيرة يقابله تخوف شعبي واسع ودعوات إلى ضرورة الحد من هذا التنامي وخطورته. رغم ما كشفت عدد من المصادر ذات الصلة بموضوع الجريمة بأن مؤشر الجريمة في المغرب يأتي ضمن المستويات المعتدلة في العالم.  ويفسّر هذا الهلع الشعبي الواسع والإحساس الجماعي بتفشيها بالانفتاح الإعلامي البيّن والانتشار الواسع لوسائل التواصل الاجتماعي مقارنة يالعقود الماضية، ممّا مكّن نقل أخبار الجريمة حال وقوعها وفضحها والتشهير بها وهو ما لم يكن متاحا من قبل، مما يسبب إحساسا جماعيا بأن الجريمة العنيفة منتشرة.


الأمن الاجتماعي ظاهرة اجتماعية كلية مركبة

يعرّف التومي الحمروني، الباحث في علم الاجتماع، في تصريح لـ"عربي21"، الأمن الاجتماعي بأنه الطمأنينة والسّكون في الأنفس وفي جميع شؤون الحياة ويقوم على أسس العدل والمساواة والحرية والقوة والحزم في تطبيق القانون متعددة الأبعاد والمستويات، تجمع المعطى الاقتصادي بالمعطى الرمزي القيمي. ويرتكز الأمن الاجتماعي على منظومة العادات والتقاليد التي يؤمن بها المجتمع وعوامل الاستقرار القائمة على التفاهم والمعايشة وروح المواطنة والشعور بالانتماء والرغبة في التعبير عن المشاركة الإيجابية في خدمة الجماعة.

 

 


ويضيف الحمروني، أن غياب الأمن الاجتماعي عن الحياة يجعلها في خطر بوصفه حاجة أساسية للمجتمع. وهو يعد وفق التحليل السوسيولوجي مؤشرا على الاستقرار والازدهار، لأنه ببساطة شديدة يعني سلامة الأفراد والجماعات من الأخطار الداخلية والخارجية وتتداخل مستوياته مع الأمن العام الوطنية والأمن الاقتصادي فلا يمكن أن يكون هناك أمن اجتماعي دون أمن اقتصادي.

علاقة الأمن الاجتماعي بالتغيرات القيمية

يقول التومي الحمروني، إنّ التغير في المجتمع يرتبط بما يمكن أن يتبناه الفرد من قيم مختلفة تساعده على التأقلم والتكيّف مع المحيط الذي يعيش فيه. ذلك أن انحصار الأمن الاجتماعي في دائرة سياسية بحتة دون ربطه بالثقافة كعملية إعادة إنتاج المعايير وتأسيس لثوابت الوجود الجمعي هو شرخ في منظومة القيم التي تشترط إعادة إنتاج وحدة الجماعة واستمرارها واستقرارها. فعامل الثقافة بالنسبة لنا هو علاقة اجتماعية وليست الثقافة بوصفها مجموعة جاهزة من الأفكار والمعارف والتقنيات أو العادات. مضيفا بالقول إنّ هذا يفترض أن تكون نابعة من حاجة لحل تناقضات البناء الاجتماعي، حلا يتغير باستمرار مع تغير المعطيات وهي بهذا الاعتبار قاعدة أولية وإطار عام من القيم التي إذا ما زالت أنزلت السياسة والاقتصاد منزلة العبث والفراغ والفوضى. فهي عملية اجتماعية تاريخية مستمرة.

وينتهي الحمروني إلى التأكيد على أنّ الأمن بمفهومه العميق هو "حصيلة إجراءات وتدابير وقائية وعقابية انطلاقا من النسيج القيمي الأخلاقي والثقافي الذي يحتكم اليه المجتمع. ذلك أنّ المجتمع إذا افتقد منظومته القيمية والمعيارية المشتركة، أي قاعدة وحدته الأولية، تفقد السياسة أيضا معاييرها لتتحول إلى صراع لا حدود ولا آفاق له.

من جهته وجوابا على سؤال "أيّ دور للمثقف العضوي والمفكّر في نشر الوعي بالأمن الاجتماعي خاصّة في ظلّ تفشّي الجريمة البشعة والانحراف في مجتمعاتنا العربيّة؟"، يؤكّد السلايمي على أنّه "لا معنى لعضوية المثقف في غياب المؤسسات، فالمثقف الفاعل يؤثّر من خلال الفنّ والإعلام والبحث العلمي والعمل الجمعياتي. وكلّ هذه المؤسسات أصبحت أشباحا صوريّة في الدّولة العربيّة الحديثة. والمجتمع العلمي كلّ لا يتجزّأ والبحث العلمي واحد وإن اختلفت حقوله ومواضيعه. تأثير البحث في علوم التصنيع والتكنولوجيا هو ذات التأثير في ترشيد الظواهر الاجتماعيّة. علاوة على أن انعدام الأمن يبقى من أقوى الأسلحة للحسرة على حكم المستبد السابق والتهيئة للمستبد المنتظر".

في ظلّ تنامي الجريمة البشعة في مجتمعاتنا العربيّة، وفي ظلّ عجز المقاربات القانونية وتنحّي دور المثقف عن مناقشة قضايا أمنه الاجتماعي وغلبة السؤال الآني اليومي المنحصر في التعاطي السياسي دون البحث في عمق الأزمات ومقارباتها المجتمعية والقيمية، فإنّه من المنتظر أن يظلّ مبحث الأمن الاجتماعي السؤال الرئيس في حاضر المعيش الاقتصادي ومستقبل الدولة والتوتر الذي يسكن المجتمع.