أظهر مسلسل "الاختيار" الذي يعرض على عدة فضائيات مصرية خلال شهر رمضان، العالم الإسلامي ابن تيمية باعتباره المرجع الديني للإرهابيين، وهو ما أثار عاصفة من الجدل الساخن حول دوافع وأبعاد تقديم ابن تيمية بتلك الصورة التي لا تتطابق مع حقيقة شخصيته وأفكاره، فهو وفق المدافعين عنه لا يستبيح الدماء المعصومة، ولا يجيز قتل المخالفين بذرائع وحجج عقائدية ومذهبية.
ونظرا لما يمثله ابن تيمية من ثقل مرجعي في الحالة الدينية عموما، وفي أوساط الاتجاهات السلفية خصوصا، فإن التعرض لشخصيته وتراثه الديني عادة ما يثير الاختلاف بين من يراه عالما وفقيها ومحققا في علوم الشريعة، مقررا للحقائق الدينية بحجج قوية ومتينة، ومجادلا للمخالفين بفهم ودراية تامة بمقولاتهم، وبين من يراه صاحب تأويلات دينية مغرقة في الراديكالية، تجد فيها تيارات التطرف والعنف أسانيد وحججا دينية قوية، تستند إليها في تأسيس مقولاتها العقدية، وتسوّغ بها أعمالها العنفية من قتل المخالفين، واستباحة دماء المعصومين.
ويجادل المدافعون عن ابن تيمية بأنه كان متسامحا مع مخالفيه، يقابل السيئة بالحسنة، ويعفو عمن ظلمه وأساء إليه، وليس في تراثه وفتاويه ما يؤسس للتطرف والعنف والإرهاب كما يتهمه بذلك خصومه ومهاجموه، وأنه لم ينفرد في مسائل الدماء والقضايا العقدية برأي خاص به، بل هو مسبوق بأقوال كثير من الفقهاء والعلماء من مختلف المذاهب العقدية والفقهية الإسلامية.
ومع أن خصوم الشيخ ومهاجميه يصرون في كتاباتهم وأحاديثهم على أن التراث التيمي طافح بالآراء الدينية المتشددة والمتطرفة، وأن ابن تيمية هو المنظر الأكبر للفكر التكفيري، فإن محبيه والمدافعين عنه يرفضون ذلك بشدة، ويؤكدون أن ابن تيمية في فتاويه وآرائه في قضايا التكفير لم يسلك سبيل الشذوذ الفقهي، بل هو قائل ومتابع لما هو مقرر في المراجع الدينية العقدية والفقهية المعتمدة عند أهل السنة، بحسب قولهم.
وفي هذا الإطار أوضح الأكاديمي المصري، الباحث المتخصص في شؤون الحركات الإسلامية، كمال حبيب أن "ابن تيمية في كتبه، ومنها كتاب الإيمان الكبير والأوسط والعقيدة الواسطية، لا يكفر أحدا من المسلمين، ولا يبيح دما معصوما أبدا".
لكنه استدرك بالقول: "ينبغي التنبه إلى أن الفترة التي جاء فيها ابن تيمية كانت فترة استثنائية في تاريخ المسلمين وهي فترة سقوط الخلافة، ما جعل فتاويه كفتوى التترس بالذات تكون مأخذا للجماعات المتطرفة لأخذها وتوظيفها لاستباحة دماء المسلمين المعصومين اليوم دون نظر للظروف التي كانت فيها هذه الفتاوى والظروف المعاصرة اليوم".
وأضاف: "فتلك الحالة تخص وضع التتار الذين أسلموا ومعسكرهم الذين كان فيه كفار أصليون، وكان فيه مرتدون عن الشرائع، وكان فيه مسلمون شهدوا الشهادة، ولا يأتون أي شيء من شعائر الإسلام وهم يكرون على المسلمين ويقاتلونهم في الشام، وكان يُخدع بهم بعض المسلمين فيتراخون عن قتالهم، فشدد ابن تيمية النكير على من يفعل ذلك، وقال بقتالهم حتى لو كان فيهم مسلمون لا تعلمونهم".
وردا على سؤال "عربي21" حول دوافع مهاجمة ابن تيمية، لفت حبيب إلى أن "الدوافع متفاوتة، فالتيارات الإلحادية واللادينية تعتبر ابن تيمية صخرة تتكسر عليها نصال أغراضهم التي تريد الدين وأهله، والتيارات الليبرالية لا تحب الرجل لأنها تراه مصدر إلهام للتيارات الإسلامية خاصة التيارات السلفية بكافة روافدها، وبعض منتسبي المؤسسة الدينية يهجمون على الرجل بسبب توجهاتهم الدينية، وببعض ما يتعلق بمسائل الصفات الإلهية".
وتابع: "لكن التهجم عليه في الأعمال الدرامية بسبب ما يرون أنه أحد مصادر الفكر الغالي والمتطرف العنيف، خاصة تيارات السلفية الجهادية، ومن جاء بعدهم من تيارات كتنظيم الدولة الإسلامية، وهم يسطون على ابن تيمية ويتلاعبون بنصوصه ويريدون أن يعطوا لأنفسهم حجية علمية لما لابن تيمية من صدى وتأثير نفسي كبير وعلمي عميق على كل التيارات الإسلامية، خاصة السلفية منها" مؤكدا أن "ابن تيمية لم يكفر مسلما بذنب، ولم يبح دماء المسلمين المعصومة، بل كان أكثر الناس حرصا على حقنها، وكذلك دماء المعاهدين من غير المسلمين".
من جهته أكدّ الباحث الشرعي الأردني، عبد الفتاح عمر، أن "ابن تيمية يحظى باحترام كبير في أوساط إسلامية واسعة، خاصة في الأوساط السلفية، وقد أساء إليه وإلى تراثه صنفان: أولهما؛ بعض من ينتسبون إليه، بتحريف كلامه، وتحميله ما لا يحتمل، وثانيهما؛ صنف هاجمه لما يمثله من مرجعية دينية محترمة، لتشويه صورته، وإسقاط مرجعيته، والحط من مكانته".
واستغرب عمر في حديثه لـ"عربي21" ما يُنسب إلى ابن تيمية من أنه يستبيح دماء مخالفيه، مع أنه كان متسامحا جدا مع مخالفيه، وقد تسببوا بسجنه على خلفية آرائه الدينية لأربع مرات، ولما طلب السلطان الناصر بن قلاوون منه أن يفتيه في سجن الفقهاء والعلماء الذي آذوه من قبل رفض ذلك، وعظم من شأنهم بأنهم أهل الإسلام وأهل العلم".
وعن الأقوال التي أطلق فيها ابن تيمية التكفير على بعض الأعمال، ومنها إطلاقه القتل على من فعل بعض الأقوال والأعمال، أوضح عمر أنه "لا يوجد في تراث ابن تيمية وفتاويه حكم على المعين، وإنما كان يتكلم بأحكام عامة مطلقة، وهو لا ينزل تلك الأحكام على أناس معينين، لأن ذلك لا يكون إلا بإقامة الحجة على كل شخص بعينه".
وأردف: "من خلال قراءة فاحصة لتراث ابن تيمية، ومقارنته بالمراجع العقدية والفقهية المقررة، فيمكنني القول بأن ابن تيمية في ما يخص تلك المسائل المتعلقة بالدماء، وموقفه من تكفير المخالفين لم ينفرد بقول خاص به، بل إن غالب تلك المسائل مطروح في جميع الكتب الفقهية المعتبرة عند أهل السنة".
بدوره وصف الباحث السوري المتخصص في الفقه الاجتماعي، إبراهيم سلقيني من يسعون لتشويه صورة ابن تيمية "بأنهم لا يريدون تشويه صورته وحده، ولكنهم يريدون تشويه كل ما هو إسلامي بشتى الأساليب والطرق، فهم حينما يطعنون بالبخاري إنما يضربون السنة بأسرها، لذا فإن استهدافهم لابن تيمية إنما هو لما يمثله من رمزية دينية محترمة في أوساط سنية واسعة".
وعن السياسة التي يتبعونها للوصول إلى أهدافهم، قال سلقيني لـ"عربي21": "تتمثل سياستهم بتركيز الضربات باتجاه شخص محدد، حتى يصبح الانتقاص منه من المسلمات، ثم يقولون للناس: انظروا كيف أن المدرسة الفكرية السنية كلها على طريقة ابن تيمية، فهذه مقدمات لمهاجمة الحالة الدينية برمتها، وتفكيك البنية الفكرية الإسلامية بصفة عامة" على حد قوله.
وأنهى حديثه بالإشارة إلى أن "انتقاد العلماء، ومنهم ابن تيمية إذا ما أخطأوا أمر وارد، وهو ما درج عليه العلماء في أبحاثهم وكتاباتهم، لأنه لا يوجد عندنا عالم معصوم في الإسلام، ووجود الفتاوى المتشددة أو المتساهلة والمتراخية أمر طبيعي، وهم يعبرون فيها عن آرائهم واجتهاداتهم، والعلماء يتناقشون ويرد بعضهم على بعض بالأدلة، وكل يؤخذ من قوله ويرد إلا الرسول عليه الصلاة والسلام".