فور الإعلان عن لقاء رئيس مجلس السيادة السوداني، الفريق أول عبد الفتاح البرهان برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في أوغندا، تفجرت براكين الغضب الرسمي والشعبي في السودان، وكان بعض ذلك الغضب لأن البرهان تعدى على صلاحيات مجلس الوزراء في أمر سياسة البلاد الخارجية، وبعضه لأن مجرد الحديث عن "إمكانية" التطبيع مع إسرائيل ظل "تابو"، أي من المحرمات في السودان، فما بالك برمز سيادة الدولة ينظر في الأمر مع رأس الحكومة الإسرائيلية.
تطور خطير
لم يرتفع صوت واحد زاعما أن البرهان يملك صلاحية الخوض أو البت في أمور علاقات السودان الخارجية، ولكن تم تسويد العديد من أوراق الصحف وشاشات التلفزة والهواتف الذكية بمرافعات تأييد غير مباشرة للبرهان، تمثّلت في تعداد مآثر التطبيع، وعوائده الدبلوماسية والاقتصادية التي وصفت بالضخامة.
كانت بعض الأصوات قد ارتفعت على استحياء خلال السنوات الأخيرة من حكم عمر البشير تحث على التطبيع مع إسرائيل، ولكن هذه المرة، كان صخب تلك الأصوات عاليا، وإن كان لا يوازي الأصوات الرافضة للتطبيع قوة وحزما، وكان اللافت للانتباه ان الأحزاب اليسارية والإسلامية السودانية توافقت إزاء مباردة البرهان على رفض مجرد طرح التطبيع للنقاش.
صفعة القرن التي وجهها دونالد ترامب ونتنياهو للضمير العالمي ستؤدي إلى يقظة فلسطينية عارمة وكاسحة
مزاعم هشّة
من المقولات التي يتذرع بها دعاة التطبيع في هذا البلد العربي أو ذاك، إن الفلسطينيين هم "ثاني" المطبِّعين بعد مصر، وهو زعم هش، حتى بافتراض أن حركة فتح التي اختارت مسار أوسلو تمثل عموم الفلسطينيين، لأن العلاقة بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل لا يمكن أن تكون وبأي درجة او وصف بأنها طبيعية، لأن الطرف القوي فيها يتنصل من كل ما اتُّفق عليه في أوسلو، ويواصل نهش الأرض التي سبق أن قبل بالخروج منها، بينما الطرف المستضعف لا يملك إلا الشكوى التي تقع على آذان صماء بعد أن عزّ الحبيب والقريب.
والأمر الذي لا شك فيه هو أن القضية الفلسطينية صارت في المخيلة العربية العامة مثل قضية ثقب الأوزون، أي أنها كادت أن تصبح قضية تهم "أهل الاختصاص"، فهناك إجماع عربي رسمي غير معلن على وضع تلك القضية في أرشيف الذاكرة العربية، ولتلك الغاية لم تعد متداولة في وسائل الإعلام العربية، وفيما مضى كان من المألوف أنه ما اجتمع زعيمان عربيان إلا وكانت القضية الفلسطينية ثالثتهما، ثم أتى علينا حين من الدهر صار ذكر تلك القضية في البيانات الثنائية والجماعية العربية، فقط من باب إبراء الذمة بجعلها كليشيه مثل "العلاقات الأزلية والمصير المشترك".
وفي تقديري فإن اتفاقيات أوسلو التي أسفرت عن قيام السلطة الفلسطينية، ثم التناحر بين حركتي فتح وحماس على مقاليد الأمور، وصولا إلى تكوين كانتوني غزة والضفة الغربية، ثم انشغال الطرفين بالكيد المفرط لبعضهما البعض، أسهم في إضعاف الحماس الشعبي العربي للقضية، وأغرى الكثير من الحكام العرب على إقامة علاقات علنية او سرية مع إسرائيل.
وفي تقديري فإن آلات إعلامية ضخمة، عملت على مدى سنوات لتجفيف التأييد الشعبي العربي العام للقضية الفلسطينية، بترديد الزعماء العرب عبارة ملغومة هي "نحن مع خيارات الشعب الفلسطيني"، ولأن التقليد السياسي العربي يقضي بأن الزعيم هو الشعب، فقد كان معنى تلك العبارة "نحن مع خيارات السلطة الفلسطينية، وطالما ارتضت تلك السلطة التعايش مع إسرائيل فنحن نؤيدها".
موقف أخلاقي
بالنسبة لأبناء وبنات جيلي، فإن الموقف من الحق الفلسطيني في الأرض والدولة "أخلاقي"، ولا يرتبط فقط بالعواطف العرقية والدينية، فهو جيل نشأ على إيقاع طبول حركات التحرر من الاستعمار، ولهذا ناصر، وبقوة، الثورات في الجزائر واليمن الجنوبي وفيتنام وغيرها من المستعمرات، وبداهة فقد كان ذلك الجيل يدرك أن فلسطين تخضع لأبشع أنواع الاستعمار، ولهذا كان لا يحيد في الدفاع عن حق الفلسطينيين في الخلاص والحرية والكرامة و.... الدولة كاملة الاستقلال والأهلية.
القضية الفلسطينية صارت في المخيلة العربية العامة مثل قضية ثقب الأوزون، أي أنها كادت أن تصبح قضية تهم "أهل الاختصاص"
الهَزْلِيَّة "La Farce" السَّودَاء.. في البَيْتِ الأَبْيَض
بعثي السودان.. الذي وسوس له الشيطان!