عندما أيقن الرئيس
المصري الراحل أنور السادات، أنه أمسك جيدا بقرون السلطة، أصيب بلوثة قذافية، وصار يعظ المصريين حول "أخلاق القرية" وكيفية تفادي "العيب"، ثم أعلن أنه سيقيم دولة "العلم والإيمان"، وفي هذا قال المصري الفصيح "العلم نورٌ، والجهل أنور"، ولا أدري ماذا سيقول صاحبنا الفصيح هذا عن بلاده في عصر "بالفكّة والملاليم نبني الاقتصاد العظيم"، و"أتكلم أنا وبس، والباقي سمع.. هس".
كان للرئيس المصري المخلوع "شكليا" حسني مبارك في سنواته الأخيرة وزير للتربية والتعليم فلتة (لا يحضرني اسمه، ولا تثريب عليّ، ففي بلداننا لا يدوم في المناصب العليا إلا راس الدولة، وكل وزير، شوية ويطير).
وأتذكر الرجل لأنه وفور تسلمه لمنصبه قال: لو أحرز طالب في الشهادة الثانوية نسبة 85 في المئة فسأقوم بزيارته في بيته للتهنئة، وكان ما يقصده السيد الوزير، أن عصر العباقرة الذين يحرزون 100 في المئة في الامتحانات المصيرية قد انتهى، ولو كان في الحكومة المصرية الحالية خير، لبحثت عن هذا الرجل، وأوكلت إليه أمر التعليم في مصر، فهو قطعا خير من جماعة مبارك الذين خرجوا من السلطة بالباب، وعادوا إليها من ثقب المفتاح.
ما لا يعرفه حكامنا، ومعهم شرائح كبيرة من المواطنين، هو أنه لا سبيل لتنمية اقتصادية -اجتماعية- سياسية في غياب نظام تعليمي كفء، والأمر الذي لا يتناطح عليه كبشان، هو أن التعليم في العالم العربي يقوم على الكم وليس الكيف، ومن ثم تتباهى كل حكومة عربية بإنشاء كذا مدرسة جديدة مع بداية كل عام دراسي، بل وتتحدث عن ثورة تعليمية وتعني بذلك "فورة" في سوق المباني المخصصة للتعليم والتدريس، ولا تسمع شيئا عن تثوير المناهج والمقررات المدرسية، إلا ما يكون من نوعية "طباعة ستة ملايين كتاب مدرسي".
في
السودان أطلقت الحكومة الحالية قبل نحو عشرين سنة ما أسمته ثورة التعليم العالي، فقفز عدد الجامعات من نحو خمس في عام 1995 إلى نحو خمس وتسعين اليوم، وتم ذلك بطريقة الحواة: يزور مسؤول حكومي رفيع بلدة ما- ولا يجد في جعبته ما يمكن أن يقدمه لأهلها فيعلن عن إنشاء جامعة، وكي تضفي الحاشية المرافقة للمسؤول الصدقية على تعهده ذاك، تقوم بإزالة لافتة "مدرسة كذا الابتدائية/ الثانوية" وتضع مكانها "جامعة كذا"، فيقوم الأهالي البسطاء بنحر الذبائح، ثم يتلفتون بحثا عن أساتذة في هذا التخصص أو ذاك، ويكتشفون صدق المثل الخليجي "من سبق لبق".
أي أن الجهات التي سبقتهم في تحويل مدارس التعليم العام إلى جامعات "كوّشت" على ما هو متاح من أساتذة لم يجدوا بعد فرصة العمل في الجامعات السعودية، وهكذا، كما صار ممكنا أن تتحول مدرسة إلى جامعة ضربة لازب، صار بإمكان من يحمل درجة جامعية طازة أن يصبح أستاذا جامعيا.
ثم أصبح التعليم الجامعي تجارة مربحة في السودان -وفي غير السودان- ودخل تجار أميون سوق التعليم العالي: يستأجر الواحد منهم حوشا به بضع غرف، أو بناية من ثلاث طبقات، ويعلن عن تأهيل الطلاب لنيل البكالوريوس في كذا فرع من فروع المعرفة.
وبلغ العبث بالتعليم الجامعي في السودان، درجة جعلت وزارة التعليم العالي تنشر إعلانات مدفوعة الأجر، تحذر فيها الطلاب من أن هناك العديد من الجامعات والكليات فاقدة الأهلية، ولكن الوزارة لم تجد الجرأة على كشف أسماء تلك الجامعات والكليات (طلبا للسلامة) واكتفت بأن قالت للطلاب: زوروا موقعنا على الانترنت وإذا لم تجدوا اسم مؤسسة تعليمية عالية مدرجة فيه فاجتنبوها.
قبل نحو ثلاث سنوات أصدر المجلس الطبي المصري بيانا قال فيه، إن خريجي كلية الطب في جامعة (*****) في شرق البلاد، لن يتم منحهم رخص مزاولة مهنة الطب لأن المناهج ومعينات التدريس فيها دون المستوى المقبول، ولا تؤهل الدارسين لممارسة الطب، فما كان من الجامعة إلا أن أصدرت بيانا تتهم فيه المجلس بالعمالة لإسرائيل، وشق الصف الوطني، ومحاربة الرأسمالية الوطنية، وكما هو معلوم فإن الكاش أقوى تأثيرا من "الكلاش"، ومن ثم فإن تلك الجامعة ما تزال حية تسعى، وتنفث خريجيها في الأسواق.. والأعمار بيد الله.
وتناولت في عجالة بؤس حال التعليم في مصر والسودان، ولكنني استدرك وأقول إن ذلك البؤس مضاعف عدة مرات حتى في الدول العربية التي تملك الموارد لتأسيس تعليم حقيقي وتأثيث المدارس والجامعات بمناهج وأساتذة من العيار الثقيل، وأتمنى أن يمد الله في أيامي حتى أتناول هذا الموضوع ببعض التفصيل مستلهما تجربتي كمدرس في المرحلة الثانوية وكولي أمور عيالي الأربعة الأكاديمية.