كتب عبد الوهاب الأفندي: أشرفت في النصف الأول من الثمانينيات، على تغطية أحداث عنف نيجيري كان محورها مجموعة دينية عرفت بجماعة ‘الميتاتسين’ وزعيمها الحاج مروة المهاجر من الكاميرون ونزيل مدينة كانو. وكان مروة- الميتاتسين يجمع حوله فقراء المدن، خاصة تلاميذ كتاتيب القرآن، وتكاثر أتباعه في السبعينيات، حيث أخذ يصور نفسه مجدداً على سنة عثمان دانفوديو، بل وقيل إنه ادعى النبوة، وكثرت صداماتهم مع الخصوم.
وفي عام 1980، تدخل الجيش مما أدى إلى قتل أكثر من خمسة آلاف شخص في الصدامات، كان من بينهم الحاج مروة نفسه. ولكن الحركة استمرت بعده وتوسعت ودخلت في صدامات متكررة راح ضحيتها الآلاف حتى منتصف الثمانينات، قبل أن تندثر.
نستذكر تلك الأحداث المؤلمة التي وثقناها في حينها للإشارة إلى أن ما تشهده نيجيريا مؤخرا من صدامات ذات طابع ديني له خلفيات وجذور عميقة. فهناك ردة الفعل تجاه الاستعمار وآثاره في تهميش عامة المسلمين. ذلك أن نظام التعليم الاستعماري نشأ تحت هيمنة الإرساليات المسيحية، مما حرم المسلمين من التعليم حتى وقت متأخر. وقد نتج عن هذا هيمنة النخبة غير المسلمة على مجالات التعليم والإدارة والقطاع المهني الحديث. ولهذا كانت الفئات التي تتحلق حول الميتاتسين ومثله من الحركات هي العناصر المهمشة، خاصة طلاب التعليم التقليدي، ممن لم يزدهم تعليمهم إلا تهميشاً وفقراً، وهم أساساً من الطبقات الأفقر واليتامى.
من جهة أخرى، عم نيجيريا مناخ من العنف والاستقطاب في حقبة ما بعد الاستقلال، كان من مظاهره الانقلاب الدموي الذي قادته مجموعة من ضباط قبيلة الإيبو عام 1966، واستهدف بالتصفية النخبة الشمالية المسلمة، وعلى رأسها تفاوا بليوا، أول رئيس وزراء منتخب، وأحمدو بيلو، حاكم الإقليم الشمالي وسليل خلفاء سوكوتو. وبالمقابل لم يتعرض رئيس نيجيريا وقتها، نامدي أزيكوي، وهو من الإيبو، لسوء. وقد شارك أزيكوي بعد هزيمة الانقلاب في حرب بيافرا الانفصالية للإقليم الشرقي الذي تسكنه غالبية من الإيبو (1967-1970)، أكثر فصول تاريخ نيجيريا الحديث دموية. وبين هذا وذاك وقعت أحداث عنف متفرقة، من أبرزها انتفاضات عرقية في دلتا النيجير من قبل الفئات المتأثرة بتنقيب النفط، وصدامات عرقية-دينية في مناطق من شمال نيجيريا ووسطها بين المسلمين والمسيحيين، سببها الفئات المتطرفة من الجانبين. جدير بالذكر أن أعمال التصفية التي تعرضت لها النخبة المسلمة في عام 1966 أعقبتها صدامات عنيفة استهدفت أفراد قبائل الإيبو المقيمين في الشمال.
في هذا الصدد، فإن العنف الذي تقود حالياً جماعة ‘
بوكو حرام’ لا يشكل فقط امتداداً لما سبق، ولكنه يضيف ظاهرة جديدة. فقد بدأت بوكو حرام في أول أمرها كطائفة منغلقة، ترفض كل مظاهر الحداثة، بما فيها التعليم. وهي في هذا تشبه حركة الميتاتسين، ولكنها تختلف عنها في أنها تستخدم الحداثة ضد الحداثة، كما كان شأنها في ابتدار نقاشات فلسفية حول نظرية النشوء والارتقاء وبعض النظريات العلمية الحديثة التي ترى أنها تخالف الإسلام.
وقد ظلت الحركة منذ نشأتها في عام 2002 في مدينة مايدوغري (إحدى معاقل حركة الميتاتسين في السابق) سلمية، تدعو إلى فكرها في مسجدها الذي أنشأته هناك ومدارسها الخاصة بها. وكما حدث في عام 1980، تدخلت الدولة والشرطة في عام 2009 بعد صدامات محدودة بين الحركة ومخالفيها، وقامت بقمعها وقتل المئات من أنصارها. وكان زعيم الحركة محمد يوسف اعتقل وظهر في مقاطع فيديو وهو يستجوب من قبل الشرطة، قبل أن يعلن موته، على الأرجح اغتيالاً أو تحت التعذيب. وفي نفس الوقت انتشرت مقاطع فيديو تظهر الشرطة وهي تقتل أسرى الحركة وهم مقيدون. وقد أدى هذا إلى إعادة نشأة الحركة في طورها الجديد، وتحت قيادة جديدة يبدو أنها متأثرة بتنظيم ‘القاعدة’، ومستميتة في العنف.
الإشكال هو أن هذه الحركة، مهما تكن بواعثها ومبرراتها، تضر بمسلمي نيجيريا، بل بالإسلام في افريقيا عموماً، خاصة في ظل ما أسلفنا من أن أحد أهم جذور ضعف الإسلام في افريقيا هو ضعف التعليم بسبب الاستعمار. من هذا المنطلق، فإن دعوة الحركة إلى مقاطعة التعليم الحديث تعني ردة تعيد المسلمين إلى وضع تهميش ذاتي أسوأ من ذلك الذي تسبب فيه الاستعمار. إضافة إلى ذلك فإن ممارسات هذه الحركة الشائهة، من خطف للفتيات وغير ذلك من أحداث العنف الإجرامي، مثل استهداف الكنائس وغير ذلك من الكبائر التي نهى الإسلام عنها، تشوه صورة الإسلام والمسلمين في افريقيا، وتخدم الأعداء. وقد تلقيت رسالة من صديق نيجيري بعد مقالة عن هذه القضية نشرت على موقع الجزيرة الانكليزي تؤكد أن التعليم تلقى ضربة قوية من ممارسات الحركة، حيث هجر الطلاب المدارس والجامعات خوفاً من عنف الحركة.
يتزامن هذا الأمر مع ممارسات أخرى تضر بالإسلام في افريقيا والعالم، مثل الحكم السريالي الذي صدر في الخرطوم ضد فتاة سودانية الأسبوع الماضي بردتها عن الإسلام وإبطال زواجها بأثر رجعي، ثم معاقبتها على ‘الزنا’ بالجلد ثم على الردة بالإعدام! ولا نريد أن ندخل هنا في تفاصيل القضية لأنها غير مهمة. فسواءً أكانت الفتاة ارتدت أم كانت كما تزعم مسيحية في الأصل، فإن الحكم يصبح مشكلة أكبر من الجرم المزعوم. فهذه الفتاة لم تعلن ارتدادها، بل كانت بحسب كل الدلائل متخفية حتى عن أسرتها التي أثارت هذه المشكلة. وبالمقابل، فإن الحكم يسلط الأضواء على شخصها وقضيتها، ويحولها إلى شخصية عالمية كما حدث من قبل للصحفية التي حكم بجلدها ظلماً بزعم عدم التحشم. وفي الحالين فإن الحكم أصبح هو المشكلة. فهو لن ينفذ قطعاً، بينما يبقى الضرر الناتج عنه. ولولا أن بعض الظن إثم، لقلت أن من أصدر هذا الحكم تعمد أن يسيء إلى الإسلام ويسدي الخدمة إلى أعدائه. وهو على كل آثم قصد أم لم يقصد، لأن كل العالم سمع بهذه القضية التي هي معركة في غير معترك، كما سمع بخطف الفتيات النيجيريات. وستبقى هذه الوقائع لسنين قادمة شاهداً على ‘بربرية’ المسلمين وجورهم.
ولعله من نافلة القول أن ارتداد فتاة مسلمة (لو صح) أو عشرات ومئات غيرها، لن يؤثر شيئاً في واقع الإسلام الذي هو أوسع الأديان انتشاراً في أوروبا والغرب، في وقت تنحسر فيه المسيحية حتى في معاقلها الرئيسية هنا. على سبيل المثال، فإنه رغم أن عدد المسلمين الرسمي في بريطانيا قد لا يزيد على اثنين بالمائة، فإن متوسط عدد المسلمين الذين شهدوا المساجد في بريطانيا كل أسبوع في عام 2004 كان 930،000، مقابل 916،000 فقط من المسيحيين الذين يشهدون الكنائس من كل الطوائف. والأول في ازدياد والثاني في تناقص (بلغ 862،000 عام 2007).
إن من واجب المسلمين ومصلحتهم أن يبصموا بأصابعهم العشرة على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي يكرس حرية المعتقد، وهم يستنون في ذلك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم الذي أقر في صلح الحديبية عدم المطالبة بتسليم المرتدين رغم قبوله إعادة من يسلم إلى قريش قائلاً: من ذهب منا إليهم فأبعده الله. وقضاة محكمة الردة في الخرطوم، مثلهم مثل جماعة بوكو حرام، يعيشون في كهوف لا علاقة لها بواقع الإسلام وحقائق العالم، فهم يسيئون للإسلام، ويصدون عن سبيل الله، ويقدمون الذخيرة لأعداء الدين في الداخل والخارج.
(القدس العربي)