قضايا وآراء

ملاحظات أساسية حول فاجعة القرن في تركيا

ماجد عزام
الأناضول
الأناضول
الأجواء المؤسساتية والسياسية والإعلامية والشعبية التي عاشتها وتعيشها تركيا في مواجهة فاجعة القرن إثر الزلزال الذي ضرب إحدى عشرة ولاية في الجنوب والشرق، تشبه إلى حد بعيد تلك التي عاشتها وعشتها شخصياً في مواجهة الانقلاب القضائي في العام 2013، والذي لا يأخذ ما يستحقه من الاهتمام، علماً أنه كان انقلاباً موصوفاً سعى لإسقاط الحكومة المنتخبة ديمقراطياً، والهيمنة الخفية على الحياة السياسية، وإحكام القبضة من الظلام على السلطات كافة، وإفشاله أو إسقاطه كان مهماً جداً في سيرورة نهوض الدولة التركية داخلياً وخارجياً واستعدادها الواثق والراسخ لدخول المئوية الثانية 2023، كما كان من جهة أخرى أحد أسباب الانقلاب العسكري الفظ والخشن صيف 2016 الذي كان آخر طلقة في جعبة الانقلابيين وداعميهم الخارجيين ،واتحدت الإرادة الرسمية والشعبية لإسقاطه بشكل ملحمي وتاريخي تماماً كما حصل ويحصل الآن في مواجهة فاجعة القرن.

الزلزال- الفاجعة يعتبر الأقسى والأشد، ولم تشهد أوروبا نظيراً له خلال القرن الأخير، كما قالت عن حق منظمة الصحة العالمية، كونه ضرب إحدى عشرة ولاية في الجنوب والجنوب الشرقي تمتد على طول 500 كلم وتضم قرابة 15 مليون مواطن، وأدى إلى خسائر كبيرة في الأرواح والممتلكات وتدمير 20 في المئة تقريباً من مدينة غازي عنتاب ونصف مدن كهرمان مرعش وهاتاي وأضنة وأنطاكيا، بينما لامست الخسائر الاقتصادية المباشرة حدود 100 مليار دولار.

الزلزال- الفاجعة يعتبر الأقسى والأشد، ولم تشهد أوروبا نظيراً له خلال القرن الأخير، كما قالت عن حق منظمة الصحة العالمية

صباح اليوم التالي للزلزال، ومع اتضاح معالم الفاجعة واتساعها وشدتها شمّرت القيادة التركية عن سواعدها ونزلت إلى الميدان، حيث جرى تشكيل لجنة عليا ضمّت الوزراء المعنيين وكبار المسؤولين التنفيذيين في الوزارات والهيئات ذات الصلة، وتواجد هؤلاء على الأرض وسط الناس في المناطق المنكوبة منذ اليوم الثاني، ثم جال عليها الرئيس رجب طيب أردوغان لاحتضان المنكوبين ومواساتهم وطمأنتهم والتخفيف عنهم، كما ينبغي للقائد أن يكون مع الدموع والمشاعر الجياشة والصادقة، حيث لا وقت للابتسام أو التصنّع أمام الكاميرات كما فعل مثلاً رئيس النظام الاستبدادي في سوريا بشار الأسد.

انتشرت فرق الإنقاذ أيضاً رغم سوء الأحوال الجوية والعاصفة الثلجية التي ضربت مناطق الزلزال في أيامه الأولى، واتساع حجم الفاجعة وامتدادها لمسافة 500 كلم، وبذلت جهود هائلة إنسانية وصادقة ومهمة، علماً أننا نتحدث عن قرابة 32 ألف عنصر من فرق الإنقاذ المحلية مع 28 ألف جندي من الجيش التركي، وعشرة آلاف من فرق الإنقاذ الأجنبية، أي أننا نتحدث عن قرابة 60 ألف من عمال وخبراء الإنقاذ مع الآلاف من الرافعات والجرافات والآليات اللازمة.

كانت ملحمة بل ملاحم ومعجزات موصوفة حسب التعبير الدارج في الإعلام التركي، مع إنقاذ أكثر من 100 ألف من الناجين -عُشرهم فقط احتاجوا للبقاء في المستشفيات لتلقي العلاج- وإجلاء ملايين من المناطق المنكوبة، ونصب مئات آلاف الخيم وعشرات آلاف البيوت الجاهزة فيها، إضافة للإيواء العاجل في المدارس ومباني السكن الجامعي والأندية الرياضية والصالات العامة.

إلى ذلك تواجد نحو ربع مليون (253 ألف) موظف رسمي من الوزارات والمؤسسات والهيئات الحكومية المعنية على الأرض لخدمة الناس وإغاثتهم، كما بدأت اللجان الهندسية المختصة مباشرة وقبل نهاية الأسبوع الأول للزلزال بتحديد الأضرار، وتصنيف المباني سعياً لإعادة الحياة إلى المدن والولايات بأسرع وقت ممكن خلال أسبوعين إلى ثلاثة، أي حتى آخر شهر شباط/ فبراير أو بداية آذار/ مارس على أكثر تقدير، علماً أنه ستتم على الأغلب عودة الناس إلى بيوتهم على الأقل في نصف المباني والمدن التي تعرضت للزلزال، والتي لا تزال صالحة للسكن أو تلك التي سيتم ترميمها. كما تم تمديد العطلة الشتوية للطلاب، وجاري العمل على إرسال ملايين الأطفال إلى المدارس في الولايات والمدن المجاورة والمحيطة كي لا يضيع عليهم العام الدراسي.

في السياق نفسه، أعلن الرئيس أردوغان عن بناء أكثر من 100 ألف وحدة سكنية خلال عام بعيداً عن خط أو حزام الزلزال وذلك ضمن خطط للإيواء والمساعدة وتضميد الجراح، علماً أن الحديث كان طوال الوقت عن زلزال يضرب إسطنبول ومحيطها في الأناضول لا الجنوب والجنوب الشرقي، بينما جرى الشروع فعلاً ومن أول آذار/ مارس في بناء 30 ألف وحدة سكنية ستكون جاهزة للاستلام خلال شهور، حيث سيراها الناس تنتصب أمام أعينهم خلال أسابيع قليلة.

بموازاة -أو للدقة إلى جانب- ما سبق كله، كانت حملة بل حملات إغاثة شعبية بدا فيها الشعب التركي موحّداً بمواجهة الفاجعة، وجرى جمع التبرعات العينية والمالية من كافة أطياف المجتمع طوال الأيام السابقة، وتجلى هذا كله أو توّج بالأحرى في حملة التبرعات ليلة الخميس 16 شباط/ فبراير التي جمعت 6 مليارات دولار في ليلة واحدة بل حتى خلال سبع ساعات، مع مساهمات الرئاسة والحكومة ورؤساء الأحزاب الموالية والمعارضة والبنوك والشركات الكبرى ورجال الأعمال، وحتى المواطنين العاديين والأطفال الذي تبرعوا بمصروفهم اليومي.

كان التعاطف الخارجي كبيراً مع تركيا، حيث نتحدث عن فِرق إنقاذ أجنبية من 90 دولة، فيما بدا ردّا للجميل لها كما جاء حرفياً على لسان الناطق باسم الخارجية الأمريكية نيد برايس الذي تحدث عن التعاطف الإنساني العالمي في مواجهة الفاجعة


كان حضورا لافتاً لرموز ونجوم الرياضة والثقافة والفن مع الدعاة ضمن ليلة ملحمية بكل ما للكلمة من معنى تشبه تماماً ليلة التكاتف التاريخية والمشهودة التي أسقطت الانقلاب العسكري منتصف تموز/ يوليو 2016.

كان التعاطف الخارجي كبيراً مع تركيا، حيث نتحدث عن فِرق إنقاذ أجنبية من 90 دولة، فيما بدا ردّا للجميل لها كما جاء حرفياً على لسان الناطق باسم الخارجية الأمريكية نيد برايس الذي تحدث عن التعاطف الإنساني العالمي في مواجهة الفاجعة.. ردّ الجميل لتركيا صاحبة الأيادي البيضاء والمنخرطة في تضميد الجراح والمساعدة في مواجهة المآسي والكوارث التي وقعت خلال السنوات الماضية؛ من هاييتي وألبانيا والبوسنة غرباً إلى أفغانستان وميانمار وبنغلاديش وإندونيسيا واليابان شرقاً.

الروابط التاريخية الحضارية والثقافية والجيوسياسية فرضت نفسها بشكل ملحوظ أيضاً مع مسارعة أذربيجان أوزبكستان وقطر وباكستان وقبرص الشمالية والبوسنة وألبانيا للوقوف إلى جانب تركيا في محنتها، مع دعم عربي وإسلامي لافت خاصة من دول الخليج قطر والكويت والسعودية وحتى الإمارات، بينما كان الشارع العربي متعاطفاً إلى حدّ كبير وعلى كل المستويات مع حملة لجمع التبرعات والصلوات والأدعية للأشقاء في تركيا وسوريا أيضاً.

في السياق جاء رد الفعل الإيراني خجولاً ومتأخر ومعبّراً عن جوهر المواقف الحقيقية تجاه تركيا، رغم الجيرة ورغم المواقف والأيادي التركية البيضاء لمساعدتها على التنفس لمواجهة الحصار الخانق، وتقديم يد العون في مواجهة الزلزال والكوارث الطبيعية، ورفض الانخراط في أي خطط أجنبية لتأجيج الأزمات والمشاكل والانقسامات الداخلية العميقة أصلاً في إيران نتيجة سياسات النظام البائسة.

جاءت فرق إنقاذ من المكسيك والصين واليابان وأوروبا التي جري فيها جمع تبرعات شعبية وأهلية، خاصة من قبل الجاليات التركية والإسلامية الحيوية والفعالة، بينما بدا الموقف الأوروبي الرسمي تقليدياً، ولم يختلف كثيراً عن ذلك الباهت ليلة الانقلاب خاصة مع عدم استنفار الاتحاد لتقديم المساعدات الفورية والضخمة؛ كما هو الحال مع أوكرانيا في مواجهة كارثة الغزو الروسي للبلاد.

رغم الفاجعة التي كانت لتؤدي إلى الانهيار في دول أخرى، إلا أن الدولة التركية تبدو متماسكة، وحسب التجارب السابقة والشواهد الحالية ما من شك أبداً أنها ستتجاوز هذه الفاجعة- المحنة

إلى ذلك كان منسوب التسييس منخفضاً جداً أيضا خلال الأيام والأسابيع الأولى للفاجعة، مع شروع الحكومة في العمل ومحاولات خجولة وفاشلة من المعارضة لاستغلال الفاجعة لصالحها، في غياب أي رؤية وتصور لمواجهتها أو حتى تحديات البلد بشكل عام.

في كل الأحوال، تفيد الشواهد أن تركيا في طريقها لتجاوز الفاجعة، حيث الدولة القوية المتماسكة المتحدة صاحبة القدرات الكبيرة، وخلال أسابيع وشهور قليلة ستعود عجلة الحياة إلى الدوران عبر الشروع في بناء 30 ألف وحدة سكنية، و100 ألف وحدة أخرى خلال عام -تضم نصف مليون شقة تقريباً- مع الشروع الفوري في إعادة إعمار البيوت والمباني التي تضررت جزئياً.

وباختصار وتركيز، رغم الفاجعة التي كانت لتؤدي إلى الانهيار في دول أخرى، إلا أن الدولة التركية تبدو متماسكة، وحسب التجارب السابقة والشواهد الحالية ما من شك أبداً أنها ستتجاوز هذه الفاجعة- المحنة في طريقها الواثق والقوي نحو المئوية الثانية للجمهورية.
التعليقات (0)