من أكثر الأسئلة إلحاحا اليوم، على كل مراقب للوضع العربي الراهن، هو السؤال المتعلق بالغائب الأبرز عن المشهد الآخذ في الاشتعال.. هذا الغائب هي جماهير الشعوب العربية التي تمثل المكون الأكبر في المشهد العربي، سواء بعددها أو بوزنها الاجتماعي والحضاري والتاريخي.
لا أحد يستطيع أن ينسى أمواج الجماهير الهادرة في الشوارع والساحات خلال ثورات الربيع العربي العظيمة، ولا أحد يستطيع أن ينكر النشوة السحرية التي ضربت كل فرد في أوطان العرب من المحيط إلى الخليج؛ وهو يرى المارد العربي يخرج من تحت الرماد. لقد نجح الطوفان الشعبي العارم للفقراء والمعطلين والمحرومين والمسحوقين؛ في دك صرح الاستبداد الجاثم على رقاب الشعوب، وأسقط في وقت قياسي أنظمة كنا نعتقد عقودا أنها عصية على السقوط.
بعد لحظات الثورات السحرية وما تبعها من إنجازات ترتقي إلى مطاف المعجزات، نقف على وضع آخر فريد يتميز أساسا بالغياب التام تقريبا لصانع المعجزات نفسها
لكن اليوم، وبعد لحظات الثورات السحرية وما تبعها من إنجازات ترتقي إلى مصافي المعجزات، نقف على وضع آخر فريد يتميز أساسا بالغياب التام تقريبا لصانع المعجزات نفسها. صحيح أن بين المشهد الأول والمشهد الثاني تظهر ضربات الثورات المضادة وجرائمها في حق
الثورة والثوّار، بعد أن نجحت الدولة العميقة في امتصاص الصدمة الأولى، وفي العودة إلى المشهد من جديد، خاصة بعد الانقلاب المصري الدامي والمذابح التي تبعته.. لكن السؤال يبقى عالقا ويتناسل: أين ذهب أولئك الذين صنعوا ربيع العرب؟ أين اختفوا؟ ما السبب وراء اختفائهم؟ لماذا لا يعودون إلى المشهد؟
الثابت الأكيد هو أن الإجابة عن السؤال تتطلب مساحة كبيرة لتفكيك الأسباب العميقة التي صنعت ربيع الشعوب أولا، ثم شرح الأسباب التي مكنت الثورة المضادة من الانتصار مرة أخرى. لكن يمكن رغم ذلك؛ رسم أهم الأسباب القادرة على تفسير الغياب الكبير للشعوب العربية عن الفعل السياسي والحضاري اليوم، في الوقت الذي تسطر فيه مصيرَها أنظمة استبدادية جاثمة على رقابها منذ عقود.
من الصحيح القول إن لحظة انفجار الثورات كانت لحظة استثنائية في التاريخ الحديث لشعوب المنطقة، إذ لم تشهد الدول العربية زلزالا قاعديا مثل الزلزال التونسي الكبير. صحيح أيضا أن الثورات أنجزتها مجموعات بشرية صغيرة مقارنة بعدد السكان في هذه الدول.. صحيح أيضا أن الثورات المضادة ارتكبت أخطر الجرائم وأبشعها في حق الثورات التي سرعان ما نجحت في ربطها بالإرهاب والإرهابيين، وصارت الثورة في العقل الجماعي صنوا للفوضى والجريمة والقتل وانعدام الأمن وانهيار الاقتصاد واستشراء الفساد.
لقد فشلت الثورة والثوار في استئصال جذور النظام القديم في تونس ومصر وليبيا، واكتفت بإسقاط واجهة النظام
لقد فشلت الثورة والثوار في استئصال جذور النظام القديم في تونس ومصر وليبيا، واكتفت بإسقاط واجهة النظام، وهو الخطأ الكبير الذي مكن الدولة العميقة من الإطاحة بالحلم الثوري، ومن تحويل ربيع الشعوب إلى ربيع الثورة المضادة.
إن أعظم الإنجازات التي حققتها الثورة المضادة إنما تتمثل في قدرتها على تشويه الثورة وعلى شيطنتها وشيطنة القائمين بها، وتصويرها مؤامرةً خارجية تستهدف تدمير الأوطان وبث الفتنة وتفتيت المجزأ، وغيرها من الشعارات والاتهامات التي صاغها العقل الانقلابي العربي وأبواقه الإعلامية.
كل هذه الانتكاسات، سواء تلك التي صنعها الثوار، أو النخبُ السياسية التي استلمت الحكم بعد الثورات مباشرة، كانت انتكاسات قاتلة؛ لأنها شكلت الجسر الذي من خلاله سربت الثورة المضادة مخالبها القاتلة التي ذبحت بها الثورة والثوار. إن أهم جرائم الثورة المضادة لم تكن في حق السياسيين والمعارضين والنخب العربية ككل، بل كانت أولا وأخيرا في حق الشعوب التي قامت بالثورات، ونجحت في تحقيق ما عجزت عنه الأحزاب السياسية طوال تاريخها الطويل من الإيهام بمقارعة الاستبداد.
تركت النخب العربية المجال فسيحا بعد نجاح الثورات؛ لتوغل القوى المعادية للثورة، سواء منها الداخلية أو الخارجية
كسرت الجماهير العربية جدار الخوف، ومزقت الأغلال التي كبّل بها النظامُ القمعي وفرق الموت التابعة له؛ وعيَ الشعوب لقرون، فأصابها بالشلل. هذا المنجَز هو في نظر الكثيرين أعظم مكاسب الربيع وأجلّها على الإطلاق؛ لأنه المكسب الذي حرر الوعي؛ أولا، وهو كذلك المكسب الذي أطلق شرارة الفعل الثوري الكبير؛ ثانيا.
لكن لمّا كان الفعل الثوري الانفجاري محكوما بحدود الزمان والمكان، ككل فعل انفجاري، فإنه ما لبث أن ترك المجال للبناء الضروري الذي كان يجب أن يعقبه، كما هو الحال في كل الثورات الناجحة عبر التاريخ. لكنّ ما كان منتظرا لم يحدث في الحالة العربية وهو ما شكّل ضربة قاتلة للمنجز الثوري برمته.
لقد تركت النخب العربية المجال فسيحا بعد نجاح الثورات؛ لتوغل القوى المعادية للثورة، سواء منها الداخلية أو الخارجية، ممهدة للانقلابات التي كانت تطبخ على نار هادئة في دوائر القرار العالمي. إن تشرذم النخب العربية وزيفها، ودعمها الخفي للاستبداد، هو الذي جعل النظام يولد من جديد، وبشكل أكثر شراسة وتوحشا، كما هو الحال في مصر وسوريا وليبيا.
إن توحش الدولة الاستبدادية الجديدة، وحجم الجرائم التي ارتكبتها في حق الشعوب، إنما يمثل إطارا جديدا لإحياء النظام القمعي العربي من رماد. هذا التوحش هو علاج الصدمة الذي كان يسعى إلى تحقيق أقصى قدر من الرعب الشعبي والإرهاب الاجتماعي، بالشكل الذي ينسف كل إمكانية لنشأة موجة ثورية جديدة.
التجارب الثورية في التاريخ تؤكد أن الثورات لا تتشكل دفعة واحدة، بل هي جملة من التراكمات التي يصنعها الوعي الشعبي القاعدي حتى تبلغ مرحلة الانفجار الأخيرة
حينها، وحينها فقط، يصبح الزمن السابق للثورة زمنا ورديا بالمقارنة مع الواقع الجديد الذي أعقب الثورات، كما هو الحال في سوريا وفي ليبيا وفي مصر وفي تونس. هذا الواقع الجديد الذي خطّته خناجر الثورة المضادة هو أعلى مطامح الاستبداد التي تجعل من الحكم الاستبدادي حكما مقبولا، بل وقدرا مفروضا على شعوب هذه الأمة وجماهيرها.
إن كل التجارب الثورية في التاريخ تؤكد أن الثورات لا تتشكل دفعة واحدة، بل هي جملة من التراكمات التي يصنعها الوعي الشعبي القاعدي حتى تبلغ مرحلة الانفجار الأخيرة. إن ثورات الحرية العربية لم تكن غير الموجة الأولى التي زعزعت هيكل الاستبداد العربي، وأحدثت فيه شرخا عظيما، وهي موجة ستعقبها حتما موجات كبيرة؛ تستفيد من وعي التجربة الأولى، خاصة وأن كل شروط الانفجار الكبير قد اكتملت واستوت في ظل وضع عربي شديد القتامة والانهيار.