هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
(1)
لا يلبث أن يعود ذلك الجدل المتكرر الذي يتناول القضية الفلسطينية من زاوية موقف الفاعلين فيها من الثورة السورية فقط، وهو جدل كثيرا ما يجنح إلى مقولات خطابية ليست ذات صلة حقيقية بالموضوع، لكنها مضلّلة على أيّ حال، من قبيل القول إن دماء الفلسطينيين ليست أغلى من دماء السوريين، أو العكس، وكأنّ جوهر القضية هو المفاضلة بين الدماء العربية، أو كأنّ أَيّا من الطرفين هو الخصم الفعلي للآخر!
والتضليل في هكذا مقاربات تفتقر للمعنى الحقيقي؛ لا يتوقف على ما سبق ذكره، إذ إنّه، وكما أن السوريين ليسوا شيئا واحدا، سواء في الموقف من الثورة أو النظام، أو في تعدد ولاءاتهم السياسية، ومواقفهم من الدول الفاعلة في الشأن السوري، أو في مستوى تضحياتهم وحجم اهتمامهم واشتغالهم بالمأساة المفتوحة في سوريا؛ فإنّ الفلسطينيين كذلك ليسوا شيئا واحدا.
بيد أن العادة العربية جرت على تنميط الفلسطينيين، فكلّهم مثلا - كما في الدعاية الرائجة في مصر وبعض دول الخليج - باعوا أرضهم لـ"اليهود"، وكلّهم ناكرون للمعروف، وكلّهم كذا وكذا من الصفات المرذولة والخصال المشينة. وهذه قنطرة لإعادة تصوير القضية الفلسطينية، بهدف التخلّي عنها، وتحويلها إلى "قرف" أو عبء مزعج.
ومع أن السوريين - في حدود علمي وتجربتي المحدودة - لم تكن تشيع فيهم الشوفينية الزائفة تلك، ولا المواقف السلبية الانطباعية من الفلسطينيين، إلا أنّ مقاربة الإشكال تجاه مواقف أو خيارات بعض الفلسطينيين السياسية التي لها علاقة بأطراف الأزمة السورية، من جهة المفاضلة بين القضايا والدماء، سوف تنزع بالضرورة لنوع من التنميط؛ يفضي إلى تجريد القضية الفلسطينية من قيمتها وأهميتها.
فحين المفاضلة، تحكم طبائع الأشياء بأن يستغرق الإنسان في وجعه المباشر، وعلى نحو يحجب عنه أيّ وجع آخر. وحينئذ، فإنّ القول إن الدماء كلّها متساوية والقضايا كلّها مركزية بالدرجة نفسها؛ غطاء كثيف من الخداع للقول إنّ دمي هو الأغلى وقضيتي هي الأهم، إذ وطالما أننا قبلنا مبدأ المفاضلة، فإنّ أحدا، ومهما ادّعى، لا يمكنه الإحساس بوجع غيره كما يحسّ هو بوجعه، بيد أن هذا ينبغي أن يكون - حينها - حقّا لأيّ أحد لا للسوري وحده ولا للفلسطيني وحده.
فلماذا نلوم بعضنا إذن؛ طالما أنّ وجعي المباشر هو المُقدّم على أي اعتبار آخر؟ وما المعيار الذي يجعل وجعا هو أولى من غيره، طالما أنّ كل شيء يمكن فلسفته، وإعادة تأويله، وجعله نسبيّا؟ والمحرّك الأساسي في عملية الفلسفة وإعادة التأويل هو الاعتبارات الخاصّة لكلّ منّا.
لكن هل من فائدة متحققة بالفعل من هذه المقارنات بين الدماء والقضايا؟ ما فائدة هذا السجال الذي سرعان ما يعود للواجهة، لا من سوريين فحسب، بل من فلسطينيين ينتقدون بعضهم كلّما استجد موقف أو اتّصال بين أطراف فلسطينية وأخرى لها علاقة بالموضوع السوري؟
الشيء الوحيد المتحقق من هذا النقاش هو الأذى، أي تلك الحواجز التي يجري نصبها بين العرب، وبين السوريين والفلسطينيين في هذه الحالة
العامل الاستعماري حاضر في جاري العرب وراهنهم، وأنّ حلّ المعضلات العربية لا يتأتّى تماما إلا بتصفية العامل الاستعماري
الفكرة هنا، في كون مركزية القضية الفلسطينية، لا علاقة لها بسعر الدم الفلسطيني، ودون التقليل من قداسة المسجد الأقصى وأهميته
إنّ الفكرة هنا، في كون مركزية القضية الفلسطينية، لا علاقة لها بسعر الدم الفلسطيني، ودون التقليل من قداسة المسجد الأقصى وأهميته بالنسبة للمسلمين، فإن مركزيتها من جهة ارتباط القضايا العربية الأساسية بها، وإن كان هناك من استغلّ هذا الشعار لقمع الشعوب، أو تغطية سياسات خاصّة، فإنّ هناك من يؤكّده ولكن من موقع الضدّ، أيّ بالسعي للتحالف مع "إسرائيل" وتطبيع وجودها في المنطقة واجتثاث المقاومة الفلسطينية، وهذا السلوك تأكيد عكسي على مركزية الموضوع الفلسطيني، وتشابكه المعقد مع قضايا المنطقة.
وفي كل الأحوال، وسواء انطلاقا من فلسطينيته الصرفة، أو من وظيفته ودوره في إشغال العدوّ على الثغر الفلسطيني، من البدهي أن يتّخذ الفلسطيني موقفا مخاصما للأطراف الأقرب للعدوّ الصهيوني، بيد أن هناك من يطالب الفلسطيني باتّخاذ موقف مخاصم ممن يدعمه فحسب، أيّا كانت أسباب دعمه، دون أن يطالبه باتخاذ موقف من عملاء الاحتلال وأمريكا. والسبب أن منطلقات هذا البعض إما طائفية، أو محكومة بوجعه المباشر الذي يُقدّمه على أي وجع آخر. وإن قدّرنا اعتباره الثاني، فلماذا لا يكون للفلسطيني وجعه المباشر الذي يُقدّمه على أي اعتبار آخر؟!
بالتأكيد ليس هذا الصواب، في حالة أمّة واحدة، ولكننا نعيش واقعا بالغ التعقيد، حتى إنّ ظروفنا وأولوياتنا، نحن الفلسطينيين، متباينة بين مواقعنا الجغرافية المتشظّية، حتى جاز أن نقول إننا صرنا شعوبا متعددة، أي نحن الفلسطينيين. وطالما أنّ الواقع معقّد إلى هذا الدرجة، فإمّا أن نعيد، نحن العرب جميعا، الاعتبار للقضية الفلسطينية في سياق كلّي تحرري، نواجه به أزماتنا الأساسية، ونخلّص القضية من استخدامها المُشين، أو أن يعذر بعضنا بعضا في خياراتنا، طالما أننا غير قادرين على تجاوز حالة التجزئة وتعقيدات والواقع، وطالما أنّه ما من أحد إلا واضطر للتعامل مع طرف له تاريخ أو واقع مظلم مع أمتنا. وينبغي في هذه الحالة أن نتمتع بمصداقية كافية، فلا نجيز لأنفسنا ما نحرّمه على غيرنا، أو أن نفلسف المسألة من زاويتنا فحسب، ونجعلها نسبية بما يخدمنا دون غيرنا!
(3)
هذا لا يعني أنّ أيّ خيار يستند إلى ادعاء الضرورة، أو الاحتياج، أو الظرف الخاصّ، محميّ من الانتقاد، فالضرورة قد تكون متوهّمة، أو التعامل معها قد لا يكون حصيفا، وقد لا يخلو من مبالغة أمكن التخلّي عنها. وفي هذا السياق تستحقّ حماس، النقد بالتأكيد، لكنها جديرة بأن ينتقدها الإخوة العرب، بما في ذلك السوريون، من جهة أدائها على ثغرها المؤتمنة عليه، والتي باسمه تدير علاقاتها السياسية وتحالفاتها الإقليمية، لا من جهة تلك العلاقات والتحالفات مجرّدة عن أصل الموضوع، أي عن الأداء على الثغر. وإلا، فإن عدم أخذ أصل المسألة بعين الاعتبار، وأخذها فقط من زاوية علاقات الفاعلين فيها وتحالفاتهم، يعني أن القضية الفلسطينية ليست مهمّة في ذاتها، وهذا يدخلنا في دور لا ينتهي، يقلّل فيه كلّ منّا من أهمية القضايا العربية الأخرى.
كثيرا من النقاش المتعلق بالموضوع السوري لا يستند إلى مواقف مبدئية، وإنما إلى انحيازات أيديولوجية، أو مواقف من هذه الدولة أو تلك