ليست غزة هي الجرح الفلسطيني الوحيد، ولم تكن غزة بديلا عن جغرافيا فلسطين، ولم يكن همّها كل الهمّ الفلسطيني، ولم تكن غزة ساحة الصراع الوحيدة ضد المشروع الصهيوني.. فالجسد الفلسطيني كله مدمى، وتتهاطل عليه السهام، وتتناوشه السُّيوف من كل صوب.. والوطن الفلسطيني يتعرَّض إلى أبشع عملية سطو عبر التاريخ..
هذا كله صحيح، ولا بد من استحضاره دوما فيما نحن نهمُّ بالحديث عن غزة.. ولكن غزة هي ملخص فلسطين.. هي التكثيف بصورته الأرقى للوجع الفلسطيني، وهي إرادة الفعل الفلسطيني بلا قيود، وهي الهمَّة الفلسطينية المستحيلة، وهي كذلك ما يوجع العدو ويقضّ مضجعه، وهي قبل ذلك كله بوابة الأمن الإقليمي والقومي في المنطقة.. ومن هنا كانت غزة بكل هذا العناد والاعتزاز بموقعها والاستئناس بالتاريخ والطمأنينة للجغرافيا بأنها حجر الأساس للوطن، وأنها سارية رايته، وأنها سيفه الذي لا ينثلم.. لا غزة هكذا فهي تسير إلى الجلجلة غير هيابة يحدوها الأمل بنهضة الأمة وتقدّمها للواجب المقدس.
منذ ستين عاما وغزة هي العنوان الأكثر بروزا، وهي مخزن لا ينضب بالرجولة والفداء، وهي من ولد كل حركات التحرير الفلسطينية، وأي حركة لم تولد في غزة وُلدت نخبوية محدودة.. فهنا كانت فتح بقيادتها التاريخية، أبو عمار وأبو جهاد وأبو إياد وأبو يوسف وكمال عدوان وعبد الفتاح حمود وماجد أبو شرار وصبحي أبو كرش... وهنا كانت حماس وأحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي وإسماعيل أبو شنب والمقادمة والريان، وهنا كان الجهاد الإسلامي فتحي شقاقي وإبراهيم معمر ومصباح الصوري وأحمد مهنا.. وهنا كان جمال أبو سمهدانة وجيفارا غزة وكل قادة العمل الفدائي الفلسطيني المميزين.. وليس في الأمر سر، فكيف لا تكون كذلك وهي عيِّنة فلسطين في أزقتها تحتشد كل الأسماء لكل الوطن بكل قراه ومدنه.
تعرضت غزة لمحاولات إذلال متعاقبة، ولم تنكسر، وكانت في كل مرة تقفز من مسرح النار لا تعترف بطغيان ميزان القوى، وتصنع موازينها الحق بدم أبنائها وعبقريتهم.. عيناها على حيفا ويافا وعكا والمجدل وبئر السبع والرملة، وقلبها في القدس، وتستمدّ يقينها من الخليل وجنين.. هذه هي إيديولوجية غزة.
لأنها كذلك فكانت الأهوال تنزل بها على حجمها.. ولعل كارثة الحصار والانقسام كانت أسوأ فصول التحدي وأكثرها فظاعة.. لقد حصل الخلل بين السياسيين الفلسطينيين فدفعت غزة الثمن الأوفى.. وكان الانقسام بين السياسيين الفلسطينيين الذين لم يتقوا الله في شعب فقير معذب بابا من أبواب الموت البطيء الثقيل فقرا ومرضا وخنقا..
إن غزة الآن تدخل باب الموت المجهول؛ بسبب ردود فعل من هنا وهناك.. وما كان ينبغي المساسُ بهذا الجانب الذي هو عصب حياة الغزيين؛ لأن المراهنة عليه لإنهاء فكرة فصل غزة قد يؤدي هو نفسه الغرض بفصل غزة، وحينذاك تكون الطامة الكبرى..
من يحمي أهل غزة من الموت والجوع والمرض؟ إن بقية المقاومة في روح الأمة تحاصَر من كل جانب فهل من مجيب؟.. تولانا الله برحمته.
الشروق الجزائرية