قضايا وآراء

مفهوم الإرهاب بين الغموض والتوظيف

1300x600
الإرهاب.. مصطلح يُراد له الغموض ومفهوم يُراد له عدم التوافق عليه.. لماذا؟ هل لأنه يصعب تعريفه أو أن ذلك التعريف سيتنازعه المفكرون وأهل الثقافة، ولن يجدوا اتفاقا أو حتى توافقا على معانيه؟.. كلا!!!

هناك هوة شاسعة بين معنى الإرهاب الحقيقي والمعنى الذي صُنع ورُسّخ بأذهان عموم الناس، خاصة المسلمين منهم، ليتم استخدامه أفضل استخدام والاستفادة من نتاج هذه الأفهام لصناعة مواقف وتحقيق مآرب يصعب تحقيقها والعمل على إقناع الشعوب بها بدونه.

والعملية ببساطة هي الاستفادة من اللفظ.. صناعة معنى جديد له.. ربط المخالف به.. إقناع الشعوب بارتباط المخالف بالمفهوم الزائف من خلال أدوات فاعلة، كالإعلام بصوره المختلفة المرئي منه والمسموع والمقروء والإعلام الإلكتروني، وغير ذلك من الوسائل الناجعة.

لاحظ، عند سماع كلمة "إرهاب"، وبعد هذا الكم الهائل من التزييف والتضليل ماذا يخطر ببالك؟ ستكوّن صورة تلقائية في عقلك الباطن تحتوي معالمها على إنسان مسلم مقنّع يحب سفك الدماء ويتلذذ بقتل الأبرياء ويستخدم الدين مطية لفعلته الشنعاء، فإذا قمنا بعملية ارتباط شرطي بين كلمة إخوان وإرهاب.. ثوار وإرهاب.. إلخ، فسترتبط تلك المصطلحات تلقائيا بمفهوم الإرهاب الذي تم صناعته. فلو سمعت كلمة إخوان سيتبادر لذهنك ذلك الرجل المجرم المقنّع، ولو ذُكر الثوار فستخرج عليك ذات الصورة، وبالنهاية قد نجد أنفسنا أمام مشهد حذّر منه خير الخلق وحبيب الحق صلى الله عليه وسلم واصفا نهاية الخليقة والسنوات الخدّاعات حين قال: ".. يصدّق فيها الكاذب ويُكذّب فيها الصادق ويؤْتمن فيها الخائن ويخوّن فيها الأمين وينطق فيها الرويبضة".

إنها فلسفة صناعة الرأي العام.. عملية معقدة يقوم بها أهل دراية وعلم في مراكز أبحاث، متخصصون في علوم النفس والمجتمع، ولهم فهم عميق بمراحل تكوين الشعوب وثقافتهم التي يُراد تضليلها.. ولهم دراية بكيفية التأثير السريع العميق وأدواته.

وإليك أمثلة على النتائج المذهلة غير المتوقعة لعمليات التضليل والتزييف التي اجتاحت العالم بشكل عام، وعالمنا العربي والإسلامي على وجه الخصوص.

فبلغة الأرقام وبعد حادثة تشارلي إيبدو بفرنسا، نشطت الإحصائيات حول العمليات الإرهابية، وكانت النتيجة صادمة للكثيرين. ففي إحصاء لمنظمة يوروبول (وكالة إنفاذ القانون بالاتحاد الأوروبي) تبين أن 2 في المئة فقط من الهجمات الإرهابية في أوروبا عام 2013 نفّذها مسلمون و98%، نفذها غير مسلمين على خلفية دوافع عرقية أو قومية أو انفصالية.

وفي دراسة أجرتها جامعة نورث كارولاينا الأمريكية عام 2014، فإنه منذ هجمات 11 أيلول/ سبتمبر لم تُوقِع العمليات المرتبطة بمسلمين إلا 37 قتيلا، في حين أن 190,000 قتلوا في الفترة الزمنية ذاتها بالولايات المتحدة الأمريكية من غيرهم.

واستنادا إلى هذه الأرقام وغيرها، خصصت مجلة ديلي بيست الأمريكية تحقيقا خلُصت فيه إلى ما يلي: "ليس خطؤك لو لم تكن على علم بحقيقة أن غالبية الجرائم الإرهابية في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية ينفذها غير مسلمين.. إنه خطأ الإعلام"، وقديما قيل: "أعطني إعلاما بلا ضمير، أعطك شعبا بلا وعي".

وسبل حل المشكل ليست سهلة ولا طريقه معبدة.. وصور الحل تكمن في أن نجرد اللفظ عن المعنى المصنوع ونربط المفهوم الحقيقي باللفظ، ونقنع به الجميع، فتظر حقيقة من تحقق فيه المفهوم وعبّر عنه بصدق من خلال الحكم على سلوكه ومواقفه.

عملية الإصلاح قد تكون أصعب من عملية التدجيل والتغييب والتجهيل بمراحل، ودون نجاحها عمل ممنهج علمي متقن، يبدأ بالإرادة، ويمر بقراءة عميقة لحجم الضرر وأنجع أدوات التأثير وتنوعها، وتكرار ممل للمفهوم الحقيقي لصناعة الوعي بالوسائل المتعددة والمتنوعة، وقبل ذلك وبعده الطلب من رب العباد واستمطار التوفيق منه جل وعلا: "ربنا افتح بينا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين".

فبحجة محاربة الإرهاب تُباد الشعوب، وتُنتهك الحرمات، ويُهجر الناس، وتُقلب الموازين، ويغيب المنطق، ويُلغى العقل، وترى اللامعقول واللامقبول، وتظهر التناقضات، ويصعب على الناس رؤية الحقيقة من كانت بضاعته في أبسط أبجديات التفكير المنطقي مزجاة، ويصعب على أهل العقول حل المشكلة لتجذرها، وكيف يصبر هؤلاء على شرح الواضحات وتبيان أبسط المنطقيات، بل ربما يكون من الأفضل لهؤلاء والأنفع العمل على استنهاض جيل جديد بدل عملية الإصلاح الطويلة المعقدة التي قد تكون نتائجها محدودة فيعلو صوت القائلين: وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر.

وفي الختام، نقول إنه من السهل تغييب العقول وتضليلها لمدة معينة، لكن ذلك لن يستمر طويلا، حيث أن الحقيقة أقوى من الوهم والحق دائما يصرع الزيف أبلج، وبالإمكان إخفاء الحقيقة بعض الوقت، ولكن ليس بالإمكان تغييبها طول الوقت، وحسبنا أن نختم بقول حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم حين غُيب العقل واختلت موازين المنطق أن قال: "اللهم أغفر لقومي فإنهم لا يعلمون".