كتاب عربي 21

الاستبداد ووعي الاحتياط

1300x600
إنّ أشد إنجازات ثورات الشعوب خطورة على هياكل الاستبداد - متمثلة في الدولة العميقة ومؤسساتها ـ هو ما حققته من كشف كبير لا ينفك يتعاظم كل يوم ليرفع عن الأمة عقودا من التزييف والتضليل تقف حاجزا أمام نهضة شعوبها. إن استبسال النُخب التي كانت المعارضة للنظام الرسمي في محاربة الثورات وفي الاصطفاف مع البنى الانقلابية في كل الدول العربية يحتم علينا إعادة قراءة الأسس التي قامت عليها والأدوار المشبوهة التي أنيطت بها. الثابت هو أن هذا الوعي أو الإدراك يتحرك بسرعة بالغة تكاد فيها الأبنية القبْلية التقليدية والقناعات المصاحبة لها تنهار أمام جزيئات المشهد المتفاعل كل يوم.

لا نستهدف هنا وعي الاستبداد وتصوراته وثقافته أو البنى الفكرية التي جعل منها النظام القمعي العربي مخالب متقدمة لتخدير العقول من الإعلام والفن والثقافة والسينما والمسرح... وكرة القدم لأن هذا الوعي وعي مكشوف مباشَرٌ. إنه لا يحتاج آليات للتفكيك والقراءة والتأويل فهدفه معلن وهو تأبيد الاستبداد ومنع كل محاولة للتغيير. نستهدف هنا أخطر أنواع الوعي وأشدها فتكا بالبُنى الذهنية المقاوِمة عند الفرد وعند المجموعة على السواء وهو الوعي المعارض للاستبداد أو ما يسمى بالوعي البديل الذي جعل منه النظام الاستبدادي حزام أمان ينقذه عند السقوط. 

الفكر المعارض للاستبداد ـ كالفكر القومي بمدارسه واليساري بفروعه والإسلامي بتفريعاته كلهاـ  هو صورة لوعي الاحتياط أو "وعي الاستبداد الاحتياطي". تنطلق هذه المقاربة من المسلمة النظرية التالية وهي أن الوعي العربي المعارض أو المعارضات العربية بأشكالها الفكرية المختلفة اللبرالية والقومية واليسارية والإسلامية لا تختلف عن وعي الاستبداد بل الأدهى من ذلك هو أنها أشد خطرا وفتكا بالبنى الذهنية من وعي الاستبداد وثقافته. 

قد لا يحتاج وعي الاستبداد بما هو جملة الرؤى والتمثلات والأشكال الثقافية التي صاغها النظام الرسمي العربي إلى جهد تفكيكي كبير مهما كانت المرجعية النظرية أو الحزبية أو القبلية التي يتأسس عليها. فصورة القائد الزعيم والبطل الملهم والمجاهد المخلّص وملك ملوك الأرض هي المحور الصلب الذي تدور عليه كل السرديات والنثريات التي أنتجها العقل الاستبدادي القمعي طوال عقود من الحكم قبل أن تعصف به ثورة الفقراء. 

حول هذا المحور تتحرك محاور فرعية تسند القاعدة الأفقية التي يقوم عليها البناء الاستبدادي مثل شيطنة التغيير وذلك عبر تحريك صناعة الخوف والإرهاب والمؤامرة خاصة في الجمهوريات العسكرية أو الأمنية في ليبيا والجزائر والعراق واليمن وسوريا وموريتانيا وتونس. فمن من المستبدين العرب ممن أطاحت بهم ثورات الفقراء لم يتحدث عن مؤامرات الثورات التي تستهدف الوطن وتستهدف القائد الرمز والزعيم البطل والمقاوم المغوار وتستهدف الأمن والأمان.

لكن النظام الاستبدادي العربي كان واعيا بحدود ثقافته وخطابه لذلك أقدم النظام والقوى التنظيرية المرتبطة به على خلق "وعي الاحتياط" الذي ستكشف ثورات الشعوب الأخيرة خطورته الكبيرة على الأمة وعلى مستقبلها. وعي الاحتياط هو الوعي الصادر عن خطاب أحزاب المعارضة التي أثثت المشهد العربي خلال عقود من الزمان قبل الانفجار الثوري. 

هذا البناء يشمل الدول الاستبدادية التي عرفت حركات معارضة داخلية هي من صنع النظام نفسه سواء بشكل مباشر أو عبر الدعم وتسهيل الحركة مثل المعارضة في تونس أو مصر أو غيرها حيث أحاط النظام نفسه بحزام بديل له يستعمل في الحالات الاستثنائية وهي الوظيفة التي ينهض بها هذا الوعي اليوم في شيطنة الثورات وتحقيق شروط عودة الاستبداد من جديد.

فوعي الاحتياط يتحرك في اتجاهين لا يقل أحدهما خطورة عن الآخر:
أما الاتجاه الأول فيكون في حالة السلم أي في حالة تمكّن النظام الاستبدادي من السلطة ففي هذه الحالة أي في حالة استتباب الأمر للنظام القمعي ينهض وعي الاحتياط بوظيفة الإيهام أو التوهيم وهي أخطر وظائفه. يوهم وعي الاحتياط عند اللبرالية بوهم الحرية وضرورة التحرر ويوهم عند المدارس القومية بالتقدمية والممانعة والمقاومة والوحدة العربية أما وعي يسار الاحتياط فيوهم بالاشتراكية وحقوق العمال ودكتاتورية "البروليتاريا" وتوحش الامبريالية وأنظمة "الكومبرادور" وغيرها. أما وعي التيارات الإسلامية الاحتياطية فيوهم بالمحافظة والعودة إلى الجذور والرضى بالحاكم والتحذير من فتنة الخروج عليه.  

أما الحالة الثانية فهي حالة اهتزاز النظام القمعي وذلك في سياق الثورات أو الاضطرابات أو الانتفاضات بأشكالها. ففي هذه الحالة لا يتخلص خطاب المعارضة العربية من وظيفة الإيهام لكنه يغير مضمون الإيهام نفسه. بث الفوضى والأكاذيب وشيطنة التغيير والثورات والتذكير بماضي النظام ومحاسنه هي أهم المضامين الجديدة التي ينهض بها وعي الاحتياط في حالة سقوط النظام الاستبدادي وهي المضامين التي تتجلى لنا اليوم عبر أجهزة الدولة العميقة وعبر الأذرع الإعلامية المتصلة بها.  

إن جوهر المعركة اليوم مع النظام القمعي العربي هو تفكيك البنى والقناعات والمنوالات الفكرية التي تأسس عليها والتي تسمح له بالتجدد سواد ما تعلق منها بثقافة الاستبداد نفسه أو بالوعي البديل أو وعي الاحتياط الذي يتخفى وراءه.