مقالات مختارة

أبعدوا الدّين عن ساحات السّخرية والتندّر

1300x600
التّرويح عن النّفس، وأخذها بالمُلح والطّرائف والنّوادر والنّكت، بين الفينة والأخرى، أمر مطلوب شرعا، تندفع إليه النّفوس وتطلبه وترتاح إليه، وقد كان الصّالحون يسلّون أنفسهم بالنّوادر والطّرائف، وكان من العلماء الأعلام من عرفوا بالطّرفة التي لا تفارقهم، فهذا الإمام عامر بن شرحبيل الشّعبيّ رحمه الله، كان لا يكاد يخلو مجلسه من الطّرفة، والإمام الزّهريّ طيّب الله ثراه، كان يقول لأصحابه: "هاتوا من أشعاركم، هاتوا من طُرفكم، أفيضوا في بعض ما يخفّ عليكم، وتأنس به طباعكم". 

بل إنّ أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، رهبان اللّيل فرسان النّهار، كانوا يتبادحون (أي يترامون بالبطّيخ)، ويمازح بعضهم بعضا، وكيف لا يفعلون ومعلّمهم –صلوات ربّي وسلامه عليه- كان يمازحهم، لكنّه لا يقول إلا حقا، وعلى نهجهم كان العلماء والصّالحون يحبّون المزاح والطّرفة، لكنّهم كانوا لا يقولون إلا حقا، ولا يستهزئون بأحد من عباد الله، ولا بشيء من دين الله.

هكذا كان الأوّلون، وهكذا كان شأنهم مع المزاح، لكنّ المتأخّرين توسّعوا في هذا الباب توسّعا كبيرا، وخرجوا عن حدّ الاعتدال إلى الابتذال، بل تجاوز كثير منهم الخطوط الحمراء وكسروا الطّابوهات، متذرّعين بالحرية الأدبيّة والحرية الإعلاميّة، وصارت الإثارة وإضحاك القرّاء والمتابعين وكسب إعجابهم غاية عند بعض كتّاب النّكت ورسّامي الكاريكاتير وبعض الفنّانين، يستبيحون في سبيل بلوغها ما لا تخفى حرمته.

وانتشرت على مواقع التواصل الاجتماعيّ وعلى صفحات بعض الجرائد قصص وصور ونكت ومقاطع كوميدية، تتضمّن استهزاء صريحا ببعض شرائع الدّين وشعائره، وبالعلماء والدّعاة والأئمّة وبالمتديّنين، كان لدعاة التّغريب والعلمنة المتذرعين بحرية التّعبير في بلاد المسلمين النّصيب الأوفى منها؛ فهذا يستهزئ بالحجاب متستّرا خلف "فضح المتشدّدين"، وذاك يستهزئ بأئمّة المساجد متذرّعا بالحرب على الجهل والجهلة، وذاك يلمز المؤذّنين ومنارات المساجد، وآخر يستهزئ بتعدّد الزّوجات، وآخر يتذرّع بفضح "تجّار الدّين" ويستهزئ بالكتب الدّينيّة وبخاصّة منها الكتب التي تخوض في بعض المسائل التي تثير حفيظة العلمانيين، وكتب المواعظ والرقائق والكتب التي تتحدّث عن اليوم الآخر وعذاب القبر ونساء أهل الجنّة.

لا شكّ أنّ هذا الانفلات يعدّ أمرا خطيرا لا ينبغي الاستهانة به، لأنّه يسقط هيبة الدّين في النّفوس ويسهّل الاستهانة بشعائر الدّين وشرائعه التي كان يفترض أن تبقى بعيدة المنال، تمنع الأقلام من الاقتراب منها والحوم حولها بلمز أو طعن أو استهزاء.. إنّه منحدر خطير ينحدر إليه من تسوّل لهم أنفسهم الاستهزاء بشيء من دين الله، أو بأحد من عباد الله بسبب دينه، يقول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: "ويل لمن يحدّث فيكذب ليضحك القوم ويل له ويل له".

هذا فيمن يكذب على مسلم في دنياه ليضحك النّاس، فكيف بمن يكذب على مسلم في دينه، أو يجعله مثارا للتندّر والسّخرية؛ بسبب شعيرة من الشّعائر مهما قلّت أهميتها.. منحدر سحيق، ما كان يهوي إليه في قرون مضت إلا من تمضّخ قلبه بالنّفاق، وأضمر في نفسه البغض لدين الله، وقد فضح الله -جلّ وعلا- في كتابة قوما من المنافقين كانوا يظهرون الإسلام على عهد النبيّ –عليه الصّلاة والسّلام- ويخرجون مع المسلمين في بعض غزواتهم. 

لكنّ هؤلاء لا يتردّدون في لمز المسلمين والاستهزاء بهم والإرجاف بينهم. وأنزل تعالى آيات تفضح دواخلهم وما تخفيه نفوسهم، فقال: ((يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَة تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِج مَا تَحْذَرُونَ * وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لاَ تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَة مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَة بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ))؛ كلّ هذا التّوبيخ والتّقريع لأنّهم استهزؤوا بقرّاء القرآن الذين خرجوا للغزو وقالوا عنهم: "ما نرى قرّاءنا هؤلاء إلا أرغب بطونا وأجبن عند اللّقاء"..

هكذا كان الاستهزاء بالدّين وأهله سمة خاصّة بالمنافقين، لكنّه لم يعد في زماننا هذا حكرا على المنافقين الذين يضمرون الكفر ويُظهرون الإسلام؛ فقد سوّل الشّيطان لبعض المسلمين الاستهانة بهذا الأمر، وأغراهم بالتوسّع فيه، وكلّما كسروا حاجزا هوّن عليهم كسر حاجز آخر، وأوجد لهم أعذارا يتذرّعون بها ومبرّرات يتمسّكون بها.

الاستهزاء بشعائر الدّين وشرائعه، مكبّ خطير، يؤدّي بصاحبه إلى الاستهتار بالدّين وحدوده وحرماته، وربّما يصل به إلى حدّ التبرّم منه ومن أحكامه وتشريعاته، ثمّ إلى النّفاق العمليّ وينتهي به إلى النّفاق الاعتقاديّ عياذا بالله.. فعلى الكتّاب والرسّامين والممثّلين والمهتمّين بتداول النّكت والطّرائف والصّور والرّسومات السّاخرة، أن يتّقوا الله في دين الأمّة، وينأوا به عن ساحات التّندّر والسّخرية، ولا شكّ أنّهم سيجدون بغيتهم وما يشبع.

الشروق الجزائرية