كتاب عربي 21

مسيحيو لبنان أقوياء فيما بينهم

1300x600
شكلت مسألة جمع القادة الموارنة على طاولة واحدة هاجسا لدى البطريرك الماروني بشارة الراعي منذ اختياره للموقع الكنسي الأول في لبنان والمشرق عام 2011، وقد تمكن بعد عدة أسابيع على انتخابه من إطلاق اللقاء الرباعي المتشكل من قادة الأحزاب المسيحية الرئيسية، أمين الجميّل عن حزب الكتائب وميشال عون عن التيار الوطني وسمير جعجع عن حزب القوات وسليمان فرنجية عن تيار المردة. اللقاء يجتمع عند الحاجة في مقر البطريركية المارونية وبدعوة منها، وهذه الحاجة تُقَدّر بحجم التطورات في لبنان والجوار ومدى تأثيرها على الواقع المسيحي. وأي تأثير أكبر في السياسة من فراغ رئاسة الجمهورية اللبنانية، الموقع المسيحي الأول في المنطقة العربية.

بعد انتهاء ولاية الرئيس السابق ميشال سليمان، فشل مجلس النواب بجبهتَيه الرئيسيتين المتصارعتَين على الحكم، 8 آذار و14 آذار، في الاتفاق المسبق على اسم لرئاسة الجمهورية، وهو أول وأهم مرحلة في الانتخاب الفعلي خارج وقبل جلسة التصويت الشكلي، هذا ما تكرس في مرحلة الوصاية السورية واستمر بعدها دون فاعلية. 

سابقا كان حافظ الأسد يختار بين مريديه من الشخصيات المارونية من يراه الأنسب للموقع بحسب تحديات المرحلة "السورية"، وكان على درجة عالية من الاطمئنان لسيطرة جنرالاته على البلد الجار الصغير، لدرجة أنه أحبّ أن يداعب اللبنانيين ذات استحقاق رئاسي فأعلن من القاهرة في مقابلة مع جريدة الأهرام عن اسم رئيسهم الجديد، وكان آنذاك إلياس الهراوي في نصف ولاية ممدَّدة بمثابة مكافأة على حسن أدائه وسلوكه. وتابع بشار الأسد لعبة أبيه الرئاسية اللبنانية بدهاء أقل.

خرج السوري من لبنان واختلف مع السعودي، شريكه المساهم عن بعد في بلاد الأرز، فارتبك زعماء لبنان أو أُربكوا، وتصرفوا كالأبَوَين المتوجّسين من التعامل مع أول مولود لهما، فطلبوا النجدة، متعهّدين بأنه الطلب الأخير، فكان اتفاق الدوحة الذي أتى بميشال سليمان إلى قصر بعبدا، خرج منه بعد ست سنوات، ومنذ ذلك الحين يجهد عمّال القصر على عدم تراكم العنكبوت والغبار فيه.

عود على بدء ومع ظهور بوادر الفراغ الرئاسي، دقّت البطريركية النفير وجمعت القادة الموارنة الأربعة، عون وفرنجية من 8 آذار والجميّل وجعجع من 14 آذار، وتم عقد خلوة برعاية البطريرك الراعي خرج إثرها الدخان الأبيض رماديا فالمجتمعون قرروا أن يكون الرئيس واحدا منهم لأنهم هم الأقوياء وأي محاولة من أحزاب الطوائف الإسلامية لإيصال رئيس خامس تُعتبر مصادرة لقرار المسيحيين و"يا غِيرة الدين". علما أن أقصى طموح الكتلة النيابية السنية أن يصل للرئاسة الجميّل أو جعجع، كما أن أقصى طموح الكتلة الشيعية أن يصل للرئاسة عون أو فرنجية. لكن المتفقين على حصر نادي المرشحين للرئاسة بمقاعدهم لم يحدّدوا آليات وسيناريوهات الاختيار فيما بينهم، وقد تحدثوا عن إلزام انسحاب "الضعفاء" لهم وتجنّبوا الإشارة إلى تنازلاتهم فيما بينهم عند اقتضاء الحاجة.

تمدّدت أزمة الفراغ الرئاسي في ظل اتهامات متبادلة بين الأطراف بالتعطيل، فيما الخارج "المتوسط الحجم" منشغل بتحسس أحجامه الجديدة في سياق حروب المنطقة وبعدها، أما الخارج "الكبير" فلا ينظر إلى لبنان راهنا إلا كالوردة التي توضع على علبة الهدية التي لم يتم تغليفها بعد أو تحديد مستحقّها. 

لبنان المتروك أضعفَ قوى 14 آذار التي تراهن على دبلوماسيات وأموال الخارج ولا سيما السعودية المنكفئة عن بيروت، فتقدمت من باب الحفاظ على حضورها ومحاولة إنقاذ هيكل الدولة الذي يحميها خطوات فلكيّة باتجاه قوى 8 آذار وحزب الله الذي يراهن على انتصارات الحروب الإيرانية في المنطقة العربية ولا يستعجل حسم الأمور في لبنان. فتمّ عمليا سحب مرشّحَي 14 آذار لصالح مرشّحَي 8 آذار التي بدل أن تتلقّف المبادرة وتسحب فرنجية لصالح عون أو العكس، طرحت أحجية ضرورة ذهاب سعد الحريري وكتلته إلى مجلس النواب لانتخاب عون دون سواه، علما أن الحريري كان أعلن أنه يؤيد وصول فرنجية لكنه يؤكد في الوقت ذاته أنه يلتزم بما تقرره البطريركية والأقطاب المسيحيون الأربعة، بمعنى أنه سينتخب أي مرشّح منهم ينسحب فرنجية لصالحه. 

لقد أضعف قطبا 8 آذار، المسيحيان ميشال عون وسليمان فرنجية، قبل غيرهما باستمرار المواجهة فيما بينهما، فكرة نادي الأقوياء الأربعة الذين لم يستطيعوا تغليب مصالح المسيحيين على نزواتهم الشخصية، بل أظهروا أنفسهم بأنهم أقوياء فيما بينهم متنازلون للآخرين، وما زالوا يرمون بطاباتهم إلى ملاعب غيرهم، علّ ذلك يؤمن لهم استمرار خطابهم الغرائزي التعبوي. يفذلكون حيثياتهم "السيا طائفية"، مستعصمين بالصوت المسيحي المغشوش بنخوتهم، بينما المطلوب منهم مكالمة هاتفية واحدة يتنازل فيها أحدهما للآخر، فيحفظان الموقع الرئاسي المسيحي العربي الفريد، وربما يحفظان معه لبنان. فصحيح أن المارونية السياسية أنتجت مع نقيضها حربا مدمرة عام 1975، لكن الصحيح أيضا أنها صنعت لبنان الجميل.. من دون شَدّة على الياء.