كتاب عربي 21

في الفاتيكان بابا لا يُظلم عنده أحد

1300x600
كلمة الحق التي نطق بها البابا فرنسيس برفضه الربط بين الإسلام والإرهاب، تُغني عن سَيل من توضيحات العلماء والدعاة المسلمين، لكونها صدرت عن رأس الكنيسة الكاثوليكية في العالم في معرض رده على سؤال حول أسباب عدم ذِكره الإسلام عندما يدين الهجمات الإرهابية، وذهب أبعد من ذلك ليؤكد أن المسيحيين كما المسلمين يمكن أن يكونوا عنيفين، مستشهدا بأنه عندما يقرأ الصحف يجد أعمال عنف وقتل تحدث في إيطاليا على أيدي كاثوليك مُعمَّدين، منتقدا بشكل غير مباشر الخطاب السياسي والإعلامي، الذي يتحدث عن أعمال عنف إسلامية ويغفل عن أعمال عنف مسيحية، وأقرّ بوجود مجموعات صغيرة من المتشددين في كل الديانات كما عند المسيحيين أيضا. وشدد البابا على أن الدين ليس الدافع الحقيقي وراء العنف، مضيفا أن القتل يمكن أن يتم بواسطة اللسان تماما كما بواسطة السكّين.

لا شك أن أدبيات كُرسي الفاتيكان تقارب الشأن العام من مداخل القيم الإنسانية ورسالة السلام التي تضطلع بها الكنيسة، دون الخوض في متاهات الحيثيات والوقائع السياسية، وإلا لكان بإمكان البابا فرنسيس استبدال الحديث عن معادلة اللسان - السكين، بالإشارة إلى أن طائرات "إف 16" والسوخوي أيضا تقتل، وفرقاطة "أوليفر هازارد بيري" الأمريكية ونظيرتها الروسية "الأميرال غورشكوف" كذلك تُدمر، والأسلحة العابرة للمحيطات التي قتلت عبر التاريخ المعاصر، وما تزال مئات آلاف المسلمين والمستضعفين في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وطريق الحرير ودول البلقان، يمكن أن تكون خضعت لمباركة قساوسة أو سبقتها مكالمةٌ مدّعاة مع الله من رئيس حضارة العالم الجديد جورج بوش؛ الذي أعلن حربا باسم الدين على العراق، فردّه إلى القرون الوسطى، وذكّر العالم بالمجازر التي ارتُكبت باسم المسيحية، وهي منها براء، في أوروبا القديمة التي قُتِل ربعُ سكانها في حرب مذهبية بين الكاثوليك والبروتستانت، وأوغَلت في محاكم التفتيش التي لم ترحم المسيحيين المختلفين ولا اليهود ولا المسلمين في الأندلس، حيث يقول عنها المؤرخ الفرنسي "غوستاف لوبون": "يستحيل علينا أن نقرأ دون أن ترتعد فرائصنا من قصص التعذيب والاضطهاد التي قام بها المسيحيون المنتصرون على المسلمين المنهزمين، فلقد عمّدوهم عنوة وسلّموهم لدواوين التفتيش التي أحرقت منهم ما استطاعت من الجموع، واقترح القس "بليدا" قطع رؤوس كل العرب دون أي استثناء ممن لم يعتنقوا المسيحية بعد، بما في ذلك النساء والأطفال، وهكذا تم قتل أو طرد ثلاثة ملايين عربي".

نكاد نرى في عينَي البابا المتصالح مع "أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ، أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ" (إنجيل لوقا 6: 27)، إدانة عميقة لما ارتكبه مجرمو الحملات الصليبية الدموية في القدس وبلاد الشام ومصر والمغرب العربي، في البوسنة والهرسك ومجازر سريبرينيتسا، في عراق "البوشين" الأب والابن، في أفغانستان الفقراء، في النازية والبلشفية والستالينية، في كل جرائم إسرائيل بأموال وأسلحة المسيحيين، في الشيشان والصومال واليمن والسودان، في ليبيا والغزو الإيطالي، في لبنان وسوريا والغزو الفرنسي، في العراق والأردن والاحتلال البريطاني، في مجازر صبرا وشاتيلا والمجد الذي أعطي لتقديس الانتقام من الأجساد الطريّة، وأخيرا، وليس آخرا، في مالي وفي جمهورية إفريقيا الوسطى.

يقف بابا التسامح والمعرفة بجوهر الرحمة في الإسلام مذهولا أمام ماكينة إعلامية بحجم الأرض؛ تحصر الجريمة بالمسلم وتنسبها إلى الإسلام وجينات أبنائه، بما يخالف المنطق الذي يحتّم انتهاء الأرض لو أن رُبع سكانها، أي المسلمين، تحوّلوا إلى انتحاريين وقتلة أو إلى بيئة حاضنة للإرهاب.

إن التاريخ هو حكايات الزمن التي لا تدور على الأديان بل على معتنقيها، وإن في تاريخ المسلمين للكثير مما يدعو إلى الخجل، أكان ما فعله بعضهم ببعض، أو ما فعلوه بالآخرين من قتل وظلم واضطهاد وإلغاء ثقافي وسياسي واجتماعي باسم الدين، وإن إنكار ذلك مِن جانب بعض المسلمين مخالف لروح الإسلام الذي يحض على الإصلاح والتوبة التي تبدأ بالإعتراف بالخطيئة. ولو التزم المسلمون بعدل إسلامهم ورسالته، لما وصلوا اليوم إلى قعر التخلف والهزيمة والضعف والهوان، وهذه حقيقة عقائدية قرآنية.

كل ما يريده بابا روما من المسيحيين ألا يخضعوا لخُرافة تخويفهم من الإسلام، وألا يتوجّسوا إذا سمعوا تكبيرات الأذان؛ لأن المسلمين لا يتوجسون من رؤية الصليب الذي شكل في حقب زمنية مختلفة شعارا لحملات إبادة طائفية ضدهم.

عندما أوذي رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم من قومه قرّر أول هجرة في التاريخ الإسلامي إلى كنف المسيحيين ومَلكِهم في أرض الحبشة "أصحَمة النجاشي"، وقال لأصحابه رضي الله عنهم: "إن فيها مَلِكا لا يُظلم عنده أحد"، واليوم يتشابه بعض الحكام الأوروبيين مع النجاشي ولا يتشابهون مع توني بلير والمحافظين الأمريكيين الجدد واليمين المتطرف في القارة العجوز، فَتحوا مدنهم وجامعاتهم ومستشفياتهم لألوف المسلمين، لا سيما الهاربين منهم من جور حكّامهم، والتزم معظم المسلمين المهاجرين بالمعادلة التي كرستها الآية الستون من سورة الرحمن "هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ"، فيما انبرت أقلية مجهرية تعبث في الظلام بوجوه معصوبة وعناوين مفقودة.. هؤلاء ليسوا عيّنة صالحة لقياس موقف المسلمين، يقول رأس الكنيسة الكاثوليكية، وبذلك يتربّع على كرسي الفاتيكان بابا لا يُظلم عنده أحد.