حتى لا نتهم، نكتب في شأن جماعة
الإخوان المسلمين أملاً في التجديد والتطوير ما أمكن، فلست لها من الكارهين، ولا عليها من الحاقدين، ولن أكون يوماً في صف المتآمرين عليها، فقد أساء البعض فينا ظنه، فاقتضى التنويه.
*****
الثقة المتبادلة، والتي تعني الاطمئنان المتبادل بين الرأس والقاعدة، بين القائد والجندي، كل حسب موقعه ومكانه يرى الآخر أهلاً لأن يشغل هذا الحيز، الذي وضع فيه، الثقة العملية، المبصرة تعتبر من المرتكزات المهمة لنجاح المؤسسات والجماعات والتنظيمات والدول، وعلى العموم الثقة ضرورة لكل التجمعات البشرية المختلفة، بغض النظر عن الأساس الذي تجمعوا عليه.
ولكن حين تكون الثقة أحادية الاتجاه، بمعنى أنها مطلوبة من طرف على أنها حق للطرف الآخر، عندئذ فقط ستتحول من مرتكز رئيس في النجاح إلى مرتكز رئيس في الفشل وربما الفساد، لأن الثقة المطلقة باعتقادي مثل السلطة المطلقة، تقود صاحبها في نهاية الأمر إلى فساد في النهج والمنهج، وفي التصورات والسلوك.
*****
وحين تتاح فرصة الاطلاع على بعض التفصيلات في موضوع الثقة عند جماعة الإخوان المسلمين، نجد عدة ملاحظات، أهمها أنها جاءت في إطار البيعة، كركن رئيس من الأركان العشرة، التي اصطلح على وضعها الأستاذ حسن البنا- رحمه الله- ليضمن للصف وحدة، وللجماعة قوة، وللفكرة نجاحا.
غير أن الأستاذ لخطورة هذا الركن إن أسيء فهمه واستغلاله، جعله آخر الأركان، مقدماً عليه باقي الأركان التي صدرها بالفهم، إيحاءً منه أن القيادة التي تستحق الثقة، التي نصت عليها البيعة، هي القيادة التي تتجسد فيها أركان البيعة التسعة، فإن تحققت كانت أهلاً للثقة، وهي ليست معنية لأن تطلبها بالقول والرسائل والخطابات، بل تحصل عليها بالفعل والسلوك الذي يجسد صدق انتمائها، وحسن أدائها، وقوة تخطيطها، وعمق تفكيرها، وجميل صبرها.
لكن الحاصل في فترات لاحقة، قدم فيه ركن الثقة على غيره، وأصبح أول ما يواجه به الملتحق بالركب الثقة، وأول ما يطالب به الثقة المطلقة بالقيادة، لأنها قيادة ربانية، محصنة بالنصوص الشرعية، التي تجعل حولها هالة من القداسة، غير المنصوص عليها فعلياً، غير أنها حصيلة هذا التحصين، لاحظ هذا التعريف الذي جعله الأستاذ البنا- رحمه الله- للثقة، لتقف على حقيقة مفادها أننا أمام نص دستوري تحصيني محكم للقيادة، مدعم بالآيات القرآنية الكريمة:
(وأريد بالثقة اطمئنان الجندي إلى القائد في كفاءته وإخلاصه، اطمئناناً عميقاً ينتج الحب والتقدير والاحترام والطاعة، "فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما").
لاحظ أن الاستشهاد بالآية الكريمة جعل الثقة بالقيادة وبالتالي التسليم لها والانقياد لأحكامها، تماماً كما هو الانقياد والتسليم للرسول- صلى الله عليه وسلم-، فأخذت حكمها، ومرتبتها، ومكانتها، بالتلميح لا بالتصريح، وبالفعل لا بالقول، فالثقة بالقيادة من مقتضيات الإيمان، والتسليم لحكم القيادة من غير حرج من مقتضيات الجندية الصادقة.
وحين يشير الأستاذ البنا- رحمه الله- إلى الثقة المتبادلة، تأتي إشارة سريعة، يلتهمها السياق المفعم بكل معاني تمجيد القيادة والارتقاء بشأنها، والتركيز على أهميتها، وخطورتها.. بقوله: (والقائد جزء من الدعوة ولا دعوة بغير قيادة، وعلى قدر الثقة المتبادلة بين القائد والجنود تكون قوة نظام الجماعة، وإحكام خططها ونجاحها في الوصول إلى غايتها، وتغلبها على ما يعترضها من عقبات وصعاب، فأولى لهم، طاعة وقول معروف).
ثم يكمل حديثه في تمجيد القيادة ورفع شأنها، وتجاوز الفرد ودوره في البناء بقوله:
وللقيادة في دعوة الإخوان حق الوالد بالرابطة القلبية، والأستاذ بالإفادة العلمية، والشيخ بالتربية الروحية، والقائد بحكم السياسة العامة للدعوة، ودعوتنا تجمع هذه المعاني جميعا، والثقة بالقيادة هي كل شيء في نجاح الدعوات، ولهذا يجب أن يسأل الأخ الصادق نفسه هذه الأسئلة ليتعرف مدى ثقته بقيادته:
1- هل تعرّف إلى قائده من قبل ودرس ظروف حياته؟
2- هل اطمأن إلى كفايته وإخلاصه؟
3- هل هو مستعد لاعتبار الأوامر التي تصدر إليه من القيادة في غير معصية (طبعا) قاطعة لا مجال فيها للجدل ولا للتردد، ولا للانتقاص ولا للتحوير، مع إبداء النصيحة والتنبيه إلى الصواب؟
4- هل هو مستعد لأن يفترض في نفسه الخطأ وفي القيادة الصواب، إذا تعارض ما أُمر به مع ما تعلم في المسائل الاجتهادية التي لم يرد فيها نصٌ شرعي؟
5- هل هو مستعد لوضع ظروفه الحيوية تحت تصرف الدعوة؟ وهل تملك القيادة في نظره حق الترجيح بين مصلحته الخاصة ومصلحة الدعوة العامة؟
وبالإجابة على هذه الأسئلة وأشباهها يستطيع الأخ أن يطمئن على مدى صلته بالقائد، وثقته به، والقلوب بيد الله يصرفها كيف يشاء "لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألّفت بين قلوبهم ولكن الله ألّف بينهم إنه عزيز حكيم".
******
لاحظ أن القيادة في الجماعة بعد أن قاربت مرتبة النبوة قبل قليل، في الفقرة السابقة، ها هي يراد لها أن تحتل مقام الأبوة والأستاذية والشيخ المربي والقائد السياسي، ومعنى هذا أنها قيادة شمولية، تجمع بين كثير من المتناقضات، الأبوة والأستاذية، والشيخ، والتربية، والقيادة، والسياسة، بعد رسم هذه الصورة الجميلة، التي استهوت القيادات المتعاقبة، وركزت عليها كثيراً، تأتي الأسئلة المطروحة على الفرد كي تؤكد على تغييبه تماماً من المشهد التنظيمي، وتفسح المجال واسعاً لهذه القيادة الربانية، وقضية الطاعة في غير معصية، شرط تزييني، حتى تمرر من خلاله عملية اغتيال الفرد بكل آرائه وطموحاته وأفكاره وإبداعاته.
لقد وصلنا إلى مرحلة استغلت فيها هذه النصوص من قبل بعض القيادات، التي جاءت بها انتخابات ليس إلا، بغض النظر عن مؤهلاتها ومكانتها العلمية والدعوية والمجتمعية، كل ما تملكه أنها منتخبة فقط، وهذا الانتخاب باعتقادها أنه يعطيها الشرعية الكاملة، والحق في أن تخضع لها الرقاب والنفوس من غير حرج تجده، فلا بد من الثقة.
وباعتقادي أن الثقة في ظل أجواء التنظيمات السرية مجال رحب، وميدان واسع، لتضخيم القيادة، على حساب الفكرة والهدف، واضمحلال الفرد وغيابه، فليس له إلا أن يكون مستسلماً، يفترض بنفسه الخطأ، وأن الصواب حكر على القيادة.
هذا النفس في الحقيقة، وهذا الاستغلال لموضوع الثقة، واستخدامه من قبل القيادة على أنه مرتكز تحصيني لموقعها القيادي، لم يعد في الحقيقة يجدي نفعاً، بعد أن تنسمت الشعوب شيئاً من ربيعها، وخاصة الشباب، الطامح بالمستقبل، المفعم بالحيوية والنشاط.
*****
وحتى لا يختلط الأمر، نحن هنا لا نتحدث عن الدعوة، والحديث عن القيادة، وفهومها وممارساتها، ليس حديثا عن الدعوة على الإطلاق، وليس تقليلاً من شأنها، وتهويناً من أمرها، بل الأمر على عكس ذلك تماماً، فأعتقد أن الممارسات الخاطئة، والفهوم المغلوطة هي التي تؤسس إلى وهن في البنيان، وضعف في الترابط، وتراجع في الإنجاز، ولا مكان في ما أعتقد للطاعة المبصرة في ظل الثقة المطلقة، خاصة حين نجعل القيادة جزءاً من الدعوة، يعني أنها جزء من الفكرة والمنهاج، فنقدها أو حتى الخروج على بعض أوامرها يعني بالضرورة الخروج على الدعوة والفكرة والمنهاج.
*****
وما تشهده الساحة الإخوانية حاليا من حراك، يأخذ شكل الخصومة والصراع، ويؤكد أن لغة الأمس ما عادت تنفع اليوم، وما كان يقبله الناس بالأمس القريب، أصبح مرفوضاً تماماً اليوم، أجواء الأمس المغلفة بالسرية، تهيئ القبول لخطاب غير مقبول تماماً في فضاءات الحرية، وساحات العلنية.
ترفض بعض القيادات للأسف تقبل هذه المعادلة، فهي لم تتعود على المعارضة الداخلية، بل لعلها لا تكاد تعرفها، إلا قليلاً من البعض، أودت بهم جرأتهم لأن يجدوا أنفسهم بعيدا، خلاصة القول هذا الخطاب، وهذا النهج القائم على الثقة المطلقة، ويفتقر إلى كل المرتكزات الأخرى المطلوبة في القيادة، لن يحقق إصلاحاً، ولن يوصل إلى غاية، إن لم يؤخرنا كثيراً للوراء، وهذا في الحقيقة ما نجنيه الآن بعد عقود طويلة من التربية على المنهج ذاته.