قضايا وآراء

بل أحسبه غافلا يا شيخنا!

1300x600
أرسل إلي صديق وقد أذهلته مشاهد الموت والدمار القادمة من حلب، وقبلها شلال الدم النازف دون توقف منذ أكثر من خمس سنوات، سألني هذا الصديق أسئلة قال إنها تفيض من قلبه المنتحب وشعوره بالقهر:

هل وجود الله وعدمه سواء في دنيانا الظالمة؟!

لا أعتقد بوجود عدالة في دنيانا، بل الانتظار والانتظار حتى قيام الساعة.. نظام ظالم لا يجد من يردعه.

كيف يقول القرآن: "وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ"، بل أحسبه غافلا يا شيخنا!!

في مواجهة هذه الأسئلة الحرجة لا يحسن بنا دفن رؤوسنا في الرمال والتقليل من خطر العواصف النفسية والفكرية التي تجتاح نفوس شباب المسلمين على نطاق آخذ في الاتساع أمام زلزلة الأحداث وفي ظل غياب فقه ديني إنساني عقلاني يقدم إجابات تشفي الصدور وتقنع العقول، وقد سجل القرآن حالة مشابهة اجتاحت نفوس المؤمنين في غزوة الأحزاب: "وَإِذْ زَاغَت الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً".

لا يمكن الجزم أن دافع السؤال عن حضور الله دائما شرير، بل ربما هو علامة حيوية إيمانية، فالإيمان الحي إيمان حركي تفاعلي مع الأحداث وهو أبعد ما يكون عن تبلد الشعور وموت الإحساس، وربما يقترب هذا السؤال من حال الصحابة حين شكوا للنبي عما تحدثه به نفوسهم فأجابهم الرسول عليه السلام: أوجدتموه؟ فإن ذلك صريح الإيمان، وقول النبي في موضع آخر: "نحن أحق بالشك من إبراهيم".

الله ليس قانونا ماديا ملموسا، وكل من آمن بالله فقد آمن به على أساس أنه غيب، والفرق بين الغيب والشهادة أن عالم الشهادة يعمل بطريقة آلية يسهل ملاحظتها والتنبؤ بها، فآلة المصنع تدخل فيها المادة خاما ثم تخرج منتجا جاهزا، يحدث ذلك برتابة وتكرار صارم فإذا تأخر المنتج مرة واحدة علم الخبراء أن ثمة خللا طرأ على عمل الآلة فسارعوا إلى الفحص والصيانة، لكن الله لا يعمل بهذه الطريقة، ولو كان حضور الله في الوجود بآلية ميكانيكية رتيبة لانتفى معنى الإيمان والكفر ولما تمايز الناس ولما كان هناك معنى للأخلاق لأن من لا يقترف الخطأ لرؤيته الرقيب الخارجي ليس بصاحب فضل، إنما صاحب الفضل من سمح له تواري الرقيب أن يشعر بحرية فعل الشيء أو الامتناع عنه، لذلك لا يكون الإله إلها إلا إن كان عمله في الخفاء لا بطريقة صريحة فجة، وقد كان من أسماء الله تعالى الباطن لأنك تشعر به في تلمس الروابط الخفية والأسرار اللطيفة خلف ظواهر الأشياء بعد أن تتحرر من ضغط اللحظة وكثافة المادة المحيطة وتنفذ ببصرك إلى العمق والما وراء..

إن هذه الحياة دار ممر وابتلاء لا دار مستقر وهناء، هذا مرتكز ضروري آخر لمقاربة معنى الله في الشدائد، إن كل ما في هذه الحياة مبرمج ذاتيا للفناء، الشمس والنجوم والأرض والذرة والإنسان والدول والحضارات، مأساة الإنسان أنه يتشبث بالبقاء في أرض ينطق كل ما فيها بحتمية الفناء، إنه يحاول معاندة القوة الطبيعية القاهرة المحيطة به، ويجزع من فقد الأحبة، لكن لو سألته في ساعة هدوء بعيدا عن أسر الأحداث وضغط العواطف: وماذا كنت تتوقع في الحياة غير ذلك؟ كم كنت تتوقع استمرار الاستقرار والهناء؟ سبعين، مائة، مائتي عام؟ لما وجد جوابا..

لقد جئنا إلى هذه الحياة ضيوفا وعلينا أن نقبل بقانون الضيافة برضى واستسلام، قانون الضيافة الذي يقول إن المقام إلى أجل مسمى، وإن لكل مبتدأ منتهى وبعد كل اجتماع افتراق وبعد كل صفاء كدر، كل ما في الحياة إلى أفول والسعيد من لم يعلق قلبه بالآفلين: "قال لا أحب الآفلين".

لكن ما بال الظلم والفساد والطغيان، وكيف يستقيم مع وجود إله عادل رحيم قادر؟

إن فلسفة وجود الإنسان على هذه الأرض هي الإنابة عن الله: "إني جاعل في الأرض خليفة"، والخليفة هو من يقوم بأدوار من استخلفه بحرية ومسؤولية، إذا لا بد أن يتمتع الإنسان بالحرية الكاملة على هذه الأرض لاختيار الوجهة التي يريدها وأن يتحمل مسؤوليات اختياراته، ولو تأملنا قوانين الطبيعة لوجدناها تسير بانضباط ودقة متناهية فلم يحدث يوما ما أن اعتدى نجم كبير على نجم صغير، أو تأخرت الشمس عن موعد طلوعها، إن كل ما في الطبيعة من الذرة إلى المجرة ينضبط وفق ميزان، والكائن الوحيد الذي يملك الخروج عن الميزان هو الإنسان بما امتلكه من حرية: "والسماء رفعها ووضع الميزان ألا تطغوا في الميزان".

هذه الحرية الإنسانية تحتمل إحدى مسارين: فهي التي تخرج من الإنسان أجمل ما فيه من روحانية وخير وذكاء وعمران، وهي ذاتها التي تخرج أسوأ ما فيه من فجور وشر وإفساد وغباء، كل ما نراه من أمثلة السمو الأخلاقي مثل محمد وعيسى وبوذا وغاندي ومظاهر العبقرية والعمران مثل ناطحات السحاب والطائرات والإنترنت هي تجل لقدرة الإنسان على التسامي وذكاء اختياراته، وفي الوقت ذاته فإن ما نراه من أمثلة التردي مثل ستالين وهتلر وبشار وجنودهم هي تجل لحرية الإنسان في الاتجاه المعاكس والتسافل إلى آخر مدى وغباء اختياراته، هذه هي جدلية الإنسان فهو ليس ملاكا ولا شيطانا ولكنه كائن يمتلك زمام مصيره ويستطيع صناعة قدره بنفسه، إما نافس الملائكة في الفضيلة وأذهلهم بذكائه أو فاق الشياطين في الشر والفساد.

إذا فالذين يسألون عن خفاء دور الإله حين يمهل الظالمين والمفسدين في الأرض حينا من الدهر لا يرون الجزء الآخر من الصورة، وهو أن هذا الخفاء ذاته هو الذي أتاح للإنسان إمكانيات العمران والاكتشاف والاختراع، فلماذا نستعجل حضور الله في الشدائد وننساه في المسرات؟ لماذا نتذكر دور الله في السيئة وننسى فضله في الحسنة؟ هذه الحالة النفسية رصدها القرآن بدقة: "وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض"! إن التناقض الذي يقع فيه هؤلاء هو أنهم يفترضون أن المنجزات البشرية هي ثمرة ذكاء الإنسان وينسون الله في نشوة فرحهم: "إنما أوتيته على علم عندي"، حسنا بالمنطق ذاته وجب القول: إن جرائم القتل والإفساد في الأرض هي ثمرة غباء الإنسان، لأن إرادة الإنسان وحدة واحدة ومن غير المعقول التعامل معها بانتقائية.

لا شك أن صرخات المظلومين ودماء الأطفال المسفوكة تؤلم كل صاحب قلب حي، ونحن لا ننكر في السائلين شعورهم الإنساني الذي يحرك هذه التساؤلات، لكن لو عرض عليهم أن يتدخل الله في حياتنا البشرية بطريقة واضحة فيسيرنا مثل الروبوتات ويبرمجنا في مسارات قاهرة لا نملك الخروج عنها، هل سيرضون أو سيرضى أحدنا بذلك! إن الفطرة الإنسانية تقدس الحرية وتأبى التضحية بها مهما بهظت تكلفتها، لذلك فإن البشر في مجموعهم وفي تكوينهم العميق يرفضون أن ينزع الله منهم هذه المكرمة مهما أسيء استغلالها، وما الصرخات التي نسمعها في أوقات الشدة عن استعجال التدخل الإلهي بإهلاك الظالمين إلا نتاج شدة الوجع وضغط اللحظة والاستدعاء الرغائبي لله، ولو أجاب الله نداءاتنا دائما وأهلك الظالمين وفق مقاييسنا الزمانية المتعجلة لانتفى معنى الاختبار ومعنى الحرية، فقيمة الحرية هي أن يفعل الإنسان ما يريد دون أن يشعر أن سيفا مسلطا على رقبته سيقتص منه حالا: "إنْ نَشَأْ نُنَزِّل عَلَيْهِمْ مِنْ السَّمَاء آيَة فَظَلَّتْ أَعْنَاقهمْ لَهَا خَاضِعِينَ".

السؤال عن دور الله في الصراعات البشرية مبني على أساس خاطئ يغفل حقيقة حرية الإنسان وسلطانه في الأرض، والصيغة الصحيحة للسؤال ينبغي أن تكون: ما الذي يمنع المظلومين من الاجتماع وامتلاك أسباب القوة لمدافعة الظالمين وهل سيمنعهم الله إن فعلوا ذلك: "وما كان عطاء ربك محظورا"؟ وما الذي يمنع البشر في مجموعهم من الاجتماع على كلمة سواء والكف عن قتل بعضهم البعض وسفك الدماء، هل سيمنعهم الله إن قرروا ذلك يوما ما؟  

في معرض توعده للظالمين ومواساته للمظلومين يحيلنا القرآن غالبا إلى القانون الطبيعي أكثر مما يعدنا بمعجزات خارقة للعادة، يواسينا القرآن بالعاقبة النهائية لمشهد الحياة الدنيا: "لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد"، والمتاع القليل بالمقياس المطلق قد يكون مئات الأعوام لكن العبرة بالخسران الأبدي بعد ذلك: "أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ"، هذه ليست دعوة للاستسلام والعجز إنما بث للقوة الروحية في نفوس المؤمنين تحميهم من اليأس، إن القانون الطبيعي وحده موطن عبرة دون معجزات، فالقذافي مثلا ظل يقترف جرائم قتل منذ أربعين عاما، وقد كان هناك مظلومون يستغيثون الله منذ ذلك الزمن البعيد ولم يكن الله يستجيب لدعائهم فورا وربما ألحد بعضهم احتجاجا على عدم استجابة الله، لكن في المشهد الأخير الذي نراه الآن فقد رحل ضحايا القذافي ورحل القذافي بعد أن كان يظن ألن يقدر عليه أحد وخيل له في لحظة من الزمن أن ملكه سيخلد فما أغنى عنه ملكه وسلطانه، إن القانون الطبيعي الذي يقول لنا إن كل شيء إلى فناء ولو بعد حين هو في ذاته دليل حضور الله وموطن اتعاظ لمن كان له قلب ومبطل لمنطق الظلم والفساد، لأن دافع الظالمين والمفسدين هو محاولتهم اليائسة تخليد ملكهم وإدامة سلطانهم، وما دام التاريخ لم يكتب أبدا أن ظالما استطاع حماية نفسه من الفناء وبلوغ أجله المحتوم فهذه حجة لصالح الاستقامة والإصلاح في الأرض، إننا نرى الله في أكثر مظاهر الحياة اعتيادا وفي الصيرورة الطبيعية للأحداث ولسنا بحاجة لمعجزة لإظهار دوره..

نعم، في القرآن أمثلة لإهلاك الظالمين بتدخل إلهي مباشر مثل فرعون وعاد وثمود أو تنزل الملائكة في بدر، لكن هذه الأمثلة لا تمثل الأصل ولا الحالة الغالبة، وثمة علاقة طردية بين التطور التاريخي وزيادة التخفي الإلهي مقابل تعزيز سلطان الإنسان في الأرض وتمكينه، ففي مراحل الطفولة البشرية حيث كان الإنسان عاجزا في مواجهة قوى الطبيعة وكانت الأفكار الميتافيزيقية وأساليب السحر متحكمة في المجتمعات البشرية كان الأسلوب الإلهي في التعامل مع عباده يعتمد على المعجزات الحسية في تأييد الأنبياء والتدخل الحسي في إهلاك الظالمين، لكن التحول التاريخي الذي انطوى عليه نزول القرآن قلص كثيرا من مساحة التدخل الإلهي المباشر لصالح القوانين العلمية، هذا التحول واضح في القرآن: "ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض"، "قاتلوهم يعذِّبْهم الله بأيديكم". إذا يمكن أن نسمي المرحلة الجديدة التي دشنتها بعثة محمد مرحلة "أيدي المؤمنين" أي أن يأخذ المؤمنون بزمام المبادرة ويجتهدوا وفق السنن البشرية لامتلاك وسائل القوة العسكرية والاقتصادية والسياسية والمعرفية التي تمكنهم من مواجهة القوى المعادية والانتصار عليها دون الداعي لانتظار معجزة من السماء. هكذا يزيد سلطان الإنسان في الأرض ويزيد التكريم الإلهي له بإعطائه مساحة أكبر للفعل والتأثير.

وأخيرا فإن ما تقدم مقاربات عقلانية لفهم حكمة عمل الله في الكون، لكن القرار الحاسم للإيمان أو الكفر لا يعتمد على التحليل المنطقي، لأن مسألة الإيمان بالله في جوهرها مسألة معايشة لا إدراك، فلو حشدنا آلاف الأدلة والبراهين العقلية فلن تقود وحدها إلى الإيمان ما لم يوجد ذلك السر الخفي في قلب الإنسان الذي يلامس فيه حضور الله، إن قيمة الأدلة العقلية هي أنها تقدم وصفا تقريبيا للحالة لمن لم يعايشها، والمعايشة مرحلة متقدمة على الإدراك مثل الحب الذي لن تكفي قراءة مئات الصفحات لتذوقه ما لم يعايشه المرء تجربة شعورية داخلية.

إن الفرق بين الملحد والمؤمن هو أن الأخير يعيش مستوى وجوديا لم يبلغه الأول، وبينما يسوق الملحد مئات الشبهات التي يظنها كافية لهدم بنيان الإيمان فإن المؤمن لا يعبأ بكل هذه الجدالات لأنه يعايش حالة حاضرة بالفعل، إن الله حاضر لأن الذين آمنوا به بحق وصدق استطاعوا بلوغ حالة من السلام الداخلي لم تخذلهم ولم تهزها كل المحن والشدائد الخارجية، فهل يحق لمن لم ير ويعاين أن يكذب من رأى وعاين؟

"والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم".