كتاب عربي 21

تحريف الكلام عن مواضعه

1300x600
الجميع في تونس يلعب لعبة اللغة الخطرة. أنصاف الجمل وأرباع الكلمات والإيحاء بأفكار كأنها تامة، ولكنها لا تؤدي كل المعنى. حذلقات كثيرة لقول ما لا يجب أن يقال علانية. كل يضمّن اللغة ما يريد، ولكن اللّغة كاشفة للنوايا. ولم يعد أمام الكذبة من حجة للهروب. المواضيع المطلوبة واضحة. والناس رغم التثبيط يزدادون وعيا بما يجري من حولهم، وتلك مزية ثورة كان سلاحها اللسان الفصيح. نحن في وضع يتجلى فيه صدق العامة أمام تلاعب النخب بالكلام لتحريف ثورة عن مواضعها. وبالنظر إلى ما نحمله من معنى مثالي للنخبة (حاملة مشاعل التقدم الفكري) وما نعقده عليها من آمال عراض لقيادة البلد. نتفاجأ يوميا بسطحية الخطاب السياسي الذي تنتجه النخب مختلفة التوجهات. ونضطر إلى إعادة تعريف النخبة بمعنى أقل رومانسية مما اعتدنا أن نعرفها به. ونتيقن بأن نخب اللغو تزداد براعة في تمييع المعنى.

1. هيبة الدولة لإخفاء هيبة النظام.


اشتغلت نخب النظام القديم على مفهوم هيبة الدولة، وصورت للناس أن فقدان مكانتها في النفوس مؤذن بخسران مبين. ووضعتهم في وضع المقارنة والاختيار بين السلم الأهلية المريحة وفوضى الثورة والاضطراب الاجتماعي، فأقبلوا عليها يستعيدون سلامهم الاجتماعي، ومضحين باحتمالات كسر الجمود وبناء البديل. فاكتشفوا أن هيبة الدولة تقوم على القمع المنهجي لمطالبهم في التنمية والانعتاق الاقتصادي. 

لم تكن هيبة الدولة إذن هي المطلوبة، بل هيبة النظام السياسي (وهي جزء من الدولة وليس الدولة). وترجمة هيبة النظام على الأرض الآن، وهنا هي الحفاظ على الوضع المأزوم والتابع والمفقر الذي ورثناه عما قبل الثورة. انساق الناس وراء مصطلح جميل فإذا بهم يفيقون على واقع بشع، لم يكن الأمر في جوهره إلا تلاعبا باللغة وحشوها بأنصاف الحقائق. وهي تقنية قام عليها النظام وخربت الدولة وعبثت خاصة بانتماء الناس إلى نسق هوية سياسي مجمع عليه بين الدولة مواطنيها. لقد عبثت نخبة النظام بمفهوم الدولة، فخربت المواطنة في الواقع وفي اللّغة. المواطن الآن، (حيث لا دولة، هو رعية نظام قمعي فاسد يموه شكله في اللغة ويخلد أثره بالعصا على ظهور الخلق).

2. العفو العام والشامل لإخفاء المسروقات.

حصل اتفاق دستوري على هيئة الحقيقة والكرامة كمؤسسة معنية بتحقيق العدالة وإنصاف الضحايا وفسخ الآلام القديمة على قاعدة القانون والأخلاق، ومن ثم الانطلاق في بناء مجتمع بلا آلام كامنة في مفاصله. لكن الإجماع على الدستور وهيئته لم يمر إلى التنفيذ. جهة ما وليست الضحية عطلت كل فعل حتى وصل الأمر إلى خيار خطير، إما إغلاق الملفات بلا محاسبة أو تخريب المرحلة (الدولة).

لقد كان هناك تقليد معروف ومعمول به على نطاق واسع. عندما تتجرأ الدولة على طلب حقوقها (الضريبة والمساهمات الاجتماعية) من رأسمالي تونسي يسارع الأخير إلى إعلان طرد العمال، فترتعب الدولة من البطالة المحتملة، فتتنازل عن حقها. 

المشهد يتكرر الآن على نطاق سياسي خاص، إما أن يعفى اللّص بمسروقاته، أو أن يوقف الاستثمار (كما لو أنه يستثمر فعلا في بناء اقتصاد وطني). يجري الآن مقايضة الماضي بالمستقبل، طبقا لنفس تقاليد الابتزاز. وقد بدأ تنفيذ ذلك (في قطاع البنوك والسياحة)، ولكن اللصوص لم يكتفوا. حيث نتابع مقايضة تنفيذ أحكام العفو التشريعي العام الذي يشمل بالخصوص مساجين النهضة السابقين الصادرة لفائدتهم أحكام قضائية مقابل العفو الاقتصادي.

 وبالنظر إلى أهمية ملف العفو عند حزب النهضة، فإنه يجبر على قبول العفو الاقتصادي وطمس المحاسبة من أجل استقرار النظام السياسي، وبالنظر إلى دور الحزب حاليا في تهدئة الأوضاع، فإنه يتعرض قبل غيره للابتزاز. فلا تطبيق لأحكام العفو التشريعي (إنصاف الضحايا) إلا بتوسيع الأمر إلى عفو اقتصادي عن اللصوص. وقد أعلن حزب النهضة قبوله بالصفقة. مستعملا حذلقات لغوية موغلة في الأخلاقويات الوطنية.

هذا مشهد آخر من العبث اللغوي الذي يخفي (يموّه) إعادة بناء النظام الاقتصادي الفاسد بنفس الفاعلين وبنفس الأدوات؛ لإبقاء الوضع على ما هو عليه. يغفل الجميع هنا طبيعة هذه الفئة التي ننعتها تجوزا بالبرجوازية، ويتناسون أنها في لحظة الثورة قد ضحت ببن علي نفسه وهو الذي كان مكَّن لها في البلد. فلمّا أن التَهَمَ أكثر منها تخلت عنه وقد كان بإمكانها إنقاذه ونظامه (نظامها في الحقيقة) من الانهيار أمام الشارع الجائع. والخشية المثيرة للشفقة أن يكون القابلون بالعفو العام والمتظاهرون بالتنازل لصالح الوطن يتوهمون استقطاب هذه الطبقة سياسيا.

3. الحرية المطلقة لإخفاء الحداثة المعطوبة.

حقل ثالث من العبث اللغوي الذي يترجم على الأرض خروجا عن مطالب الثورة الاجتماعية. إنها التضمينات المسترابة داخل مفهوم الحرية الذي يتحول عن ترسيخ مطلب الحرية السياسية والإعلامية والثقافية إلى تشريع ممارسة الحرية الجنسية. فقد تخصصت بعض النخب في تحريف النقاش في اتجاه إبعاده عن الأصل الذي قامت من أجله الثورة. الشارع يقول بترسيخ الحريات السياسية وحرية التعبير التي قمعت في دولة الاستبداد. والنخب (أو بعضها) يقول بضرورة تقنين اللِّواط والسِّحاق وتشريع ممارسته في العلن. وصولا إلى تعديل الأحوال الشخصية ليكون من حق اللّواطي حرية اختيار شريكه أي أن يتزاوج الذكران والإناث طبقا للقانون.

إننا إزاء عبث لغوي بمفهوم الحرية ومضامينها الواقعية. غني عن القول أن هذا لم يكن أبدا مطلبا قامت من أجله الثورة. ولكنه شغل نخب متخصصة في تمييع المعنى وجدت في هذا الخطاب مصدر رزق ومكانة نخبوية تفتح لها أبواب إعلام تموّله جهات متضررة من احتمالات الحرية فتقوم هذه النخب بحرف النقاش عن مواضعه لينصرف الناس عن حقوقهم.

4. ما ينجز في اللّغة يحرّف الواقع.

هيبة الدولة التي تخفي هيبة القمع والعفو العام الذي يعيد للصوص حقوقهم والحرية الحسية التي تعبث بحرية الفكر مجاميع لغوية ثلاثة، مهمتها إعادة بناء إيديولوجيا الطبقة الفاسدة التي لا تتزحزح عن مغانمها في زمن الدكتاتورية، وتؤبد موضع الغنيمة على حساب بناء دولة لكل مواطنيها.

كان المطلوب ثوريا إعادة بناء الخطاب التنموي على قاعدة العدالة والحرية والمواطنة الكاملة. لكن أفاق الصف المتحمس للثورة يدفع عن نفسه تهم الثورجية، وعليه بالصمت أو بالخضوع إلى خطاب مغشوش حتى ينال شرف الإلحاق بالوطن. فتحت هرسلة مستمرة يقوم بها إعلام محترف، ليجد المؤمن بالتغيير نفسه محشورا في وضع الدفاع عن مواطنته بالتخلي عنها.

هذا الصف للأسف قاصر حتى اللحظة على تأليف خطاب (مشهد لغوي) مضاد يضع مفاهيم التنمية السياسية والاقتصادية والثقافية في مواجهة خطاب السلطة المخاتل. هذا مجال على الثورة أن تقتحمه دفاعا عن نفسها وتتحمل مسؤولية التأسيس. فالثورة تتأسس في اللغة لتعطي لفعلها في الواقع أسماء حقيقية.