قضايا وآراء

التحول إلى القوة الناعمة

1300x600
بين الفينة والأخرى يستيقظ العالم على أخبار التجارب النووية لكوريا الشمالية، ولا تتوقف الآلة الدعائية في هذا البلد القصي عن بث مشاهد تدريبات الجنود واستعراضات الأسلحة لتباهي العالم وتسوق بطولات تخدر بها شعبا أحكم حصاره وعزلته عن العالم، ورغم صورة البطولة والتحدي التي يحرص حكام هذا البلد على رسمها إلا أننا لا نحتاج إلى أدنى عناء لإثبات أن هذا البلد ليس هو النموذج الذي يفكر أحد من أمم الأرض في استلهامه واتباع طريقه! 

بعد حادثة إسقاط تركيا للطائرة الروسية العسكرية قبل بضعة أشهر اشرأبت الأعناق وكثرت التكهنات عن حرب عالمية وشيكة، وانتظر كثيرون غضبة الدب الروسي الجريح لكن الرد الروسي جاء عبر حزمة من الإجراءات الاقتصادية والتجارية وسرعان ما انقشع الغمام عن رغبة كل الأطراف في الحيلولة دون تصعيد التوتر ليصل مرحلة الحرب المباشرة.    

أما ألمانيا واليابان البلدان اللذان تجرعا مرارة الهزيمة في الحرب العالمية الثانية فقد فهما بعد هذا الدرس الأليم أن ثمة طريقاً آخر غير طريق المآسي والحروب لتبوء مكانة محترمة في هذا العالم، ودخلا في مضمار التسابق بالعلم والتكنولوجيا والاقتصاد فغزت منتجاتهما العالم وبذلك امتلكا أدوات جديدةً للهيمنة لا يشترط فيها أن تسحق خصمك بالنار والبارود بل يكفي أن تقنعه بأنك تملك من الأدوات ما يؤثر في تشكيل حياته وأن احتفاظه بحالة الاستقرار لا يكون بمنأىً عن  المحافظة على مصالحك، أي لم تعد فلسفة العلاقات بين الدول قائمةً على حرص كل دولة على كسر إرادة الآخر بل على توصل جميع الأطراف إلى إرادة مشتركة يتوافق فيها الجميع على صيغة سلمية للمحافظة على الهدوء والتعايش.

في مقابل مثل ألمانيا واليابان أمامنا مثل باكستان وإيران، فالأولى أنتجت قنبلةً نوويةً ففرح المسلمون بهذا المولود النووي الإسلامي لكن عين المراقب لا تخطئ أن باكستان النووية لا تجرؤ على قول لا لأمريكا وأن سماءها مستباحة للطائرات الأمريكية وأرضها مستباحة لعبث أجهزة المخابرات الأجنبية فضلاً عن واقع الفقر وغياب التنمية الذي يعيشه الشعب الباكستاني، أما إيران فقد قايضت برنامجها النووي برفع العقوبات الاقتصادية عنها، ما يعني أن سلاح الاقتصاد والمال أقوى من القنبلة النووية فهل من مدَّكر؟  

كل هذه آيات بينات تقول لنا إن السلاح بات صنماً لا ينفع ولا يغني عن أهله شيئاً لكن أكثر الناس عن آيات الله غافلون!

هذه الأمثلة تنبهنا إلى أن شيئاً جديداً يتشكل في العالم غير مسار الاقتتال والإفناء الذي صبغ العلاقات الإنسانية منذ فجر التاريخ، إن طريق العنف مهما طال فهو طريق مسدود، ذلك أن العنف لا يولد إلا العنف، والحرب سلوك انتحاري غير عقلاني فالإنسان يجني على نفسه في هذه الطريق: "يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم" ومع تقدم الأسلحة وصولاً إلى التدمير الشامل ومع تشعب المصالح الاقتصادية للدول لم تعد الحرب خياراً مرغوباً حتى للدول المتفوقة عسكرياً لأن مصالحها الاقتصادية الممتدة حول العالم لا يمكن أن تكون في مأمن إلا بتطبيع العلاقات السياسية والثقافية مع الأمم. 
إن الإنسان لا يحيا بالتفوق العسكري وحده، ولتبسيط المعنى نبدأ من المستوى الفردي مع جندي مدجج بكل أنواع الأسلحة يعيش في مدينة ويملك من القوة ما يستطيع أن يسحق به أي فرد، لكن أهل المدينة جميعاً يقاطعونه بسبب افترائه وفجاجته، فإذا رغب هذا الجندي في إيجاد صديق يسامره لم يجد، وإذا مر الناس من أمامه أعرضوا عنه ولم يكلموه، يرى الناس من حوله يضحكون ويقيمون الاحتفالات والمهرجانات فلا يستطيع مشاركتهم، إن رغب في شراء حاجة لم يبعه أحد، وإن رغب في الزواج لم تقبل به أي فتاة، ماذا سيغني عن هذا الجندي قوته إن لم يستطع أن يحيا حياةً طبيعيةً وأن يندمج بين الناس؟

هذا المثال يبين بصورة مركزة حاجة الإنسان فرداً وجماعةً إلى ما هو أكبر من التفوق العسكري، وهذا ما دفع جوزيف ناي مساعد وزير الدفاع الأمريكي الأسبق إلى إطلاق مصطلح "القوة الناعمة" حيث يقول في كتابه الذي حمل هذا العنوان إن حسم الصراعات بالقوة العسكرية وحدها أصبح أمراً من الماضي خاصةً وأن الانفتاح وقوة وسائل الاتصال والبرمجيات قد تشكل عائقاً كلما حاولت الولايات المتحدة شن حرب جديدة، وأضاف ناي أن مصدر قوة أمريكا ليس هو الجيش فقط وإنما مجموعة من الدواعم لهذه القوة مثل اجتذاب الولايات المتحدة أكبر نسبة للمهاجرين، والطلبة الذين سيحملون الكثير من القيم والمبادئ الأمريكية، ويمكن أن يكونوا سفراء للثقافة الأمريكية ويحتلون في دولهم مراكز القرار، كما تحتل الولايات المتحدة المرتبة الأولى في الفوز بجوائز نوبل في الفيزياء والكيمياء والاقتصاد، ومبيعاتها من المؤلفات الموسيقية تشكل الضعف مقارنة مع اليابان التي تحتل المرتبة الثانية، وتعتبر أمريكا أكبر مصدر للأفلام والبرامج التلفزيونية في العالم.

القوة الناعمة أعمق أثراً من القوة الخشنة، لأن الأخيرة تقوم على إخضاع الناس بالإكراه وتطلب منهم العمل بخلاف إرادتهم ورغبتهم بينما القوة الناعمة تعني أن تخلق في نفوس الناس الرغبة الذاتية للتماشي مع قيمك ومصالحك، إن الفن والأدب من أقوى الأسلحة لفتح القلوب والعقول في العصر الحديث، إن أديباً من طراز غسان كنفاني الفلسطيني قدم للقضية الفلسطينية أكثر مما قدمته ألف بندقية، ما فعله غسان كنفاني هو أنه قدم الرواية الفلسطينية التي عمل الصهاينة جاهدين على إخفائها إلى العالم فصار بإمكان أي قارئ لأدب كنفاني في أي بقعة من العالم أن يتبنى الموقف النضالي الفلسطيني وأن يدين الجريمة الإسرائيلية.

يقول الباحث الفلسطيني جمال هلال: "في أعقاب إعلان دولة إسرائيل في 1948 وهزيمة النخب السياسية والحركة الوطنية آنذاك، حافظت الأقلية الفلسطينية على هويتها الوطنية والقومية من خلال نشاط الحقل الثقافي ولا سيما في مجالات الشعر والقصة والرواية والمسرح ولاحقًا الغناء والسينما. ومنذئذ ظل الحقل الثقافي يوفر للفلسطينيين إمكانيات أرحب من الحقل السياسي، ولا سيما في أوقات الأزمات، للتواصل وبناء الأطر والنشاطات المشتركة الخارقة لحدود الجغرافيا السياسية". 

هذا ما تنبهت إليه حركة المقاطعة الدولية PDS  التي تقوم فلسفتها على مقاطعة دولة الاحتلال أكاديمياً وثقافياً وسحب الاستثمارات منها، إن الفعل النضالي المباشر يقوم على إلحاق الأذى بالإسرائيليين، أما المقاطعة التي تعد من أبرز أشكال المقاومة الناعمة فتقوم فكرتها على الالتفاف على دولة الاحتلال وإحكام الخناق عليها وخلق ظروف غير طبيعية تشعر سكان هذا الكيان بأنهم منبوذون وأنهم غير قادرين على التطبيع مع العالم مما يرفع من تكلفة إقامتهم النفسية والاقتصادية والسياسية، هذه المقاطعة وإن كانت تواجه دولة الاحتلال بوسائل ناعمة إلا أنها نجحت في إثارة الفزع في صفوف قادة هذا الكيان ويكفي الاستدلال بتصريح رئيس دولة الاحتلال روفن ريفلين مؤخراً أن المقاطعة الأكاديمية لإسرائيل تشكل "تهديداً استراتيجياً من الطراز الأول"، أما غلعاد إردان وزير الشئون الاستراتيجية فقال إنه سيركز على خطرين رئيسيين: إيران و"بي دي اس".

يتزايد العالم اليوم انفتاحا وتشابكا ومصالح اقتصادية، وهذا المعطى الجديد يخدم فكرة التعايش السلمي بين البشر ويقلص مساحة الحرب، وفي ضوء هذا الواقع الجديد تزيد فاعلية أدوات الأدب والفن والثقافة والتقدم العلمي والتكنولوجي، إذ إننا  في واقع يتم فيه تدشين الهرم من الأسفل للأعلى بمعنى أن "التحتي" الاقتصادي والاجتماعي هو الأساس لتدشين "الفوقي" السياسي والعسكري كما تقول هبة رءوف عزت وهو ما يعني مركزية الواقع الاقتصادي والاجتماعي وتبعية الواقع السياسي والعسكري، أي أنه صار بالإمكان الإضرار بالقوى التي تنتهك حقوق الشعوب بأدوات اقتصادية واجتماعية وثقافية وذلك عبر وضعها أمام خيارين: إما أن تقبل بكلمة سواء وتلتزم بالمعايير المتعارف عليها إنسانياً وإما أن تواجه قطيعة وعزلة خانقة تحول دون قدرتها على العيش الطبيعي.