حين كتابة هذه المقالة، لم يكن بعد قد حصل أي تطور إيجابي في قضية محمد
القيق، الأسير الصحفي المضرب عن الطعام في سجون العدو الصهيوني منذ أكثر من 90 يوما. وعلى العكس من ذلك، فإنّ تعنّت العدو، أو امتناعه عن الرد على مقترحات المحامين، هو العنوان الأبرز للقضية حتى اللحظة، ومن المحتمل جدا أن يبقى الحال كذلك إلى حين النشر، ولكن لن يتغير شيء من مضمون المقالة مهما كانت تطورات ومآلات إضراب محمد.
سيبقى محمد بطلا استثنائيا، التزم بمحض إرادته الحرّة خيارا قاسيا، ووظف خياره في سياق عام يتجاوز مطلب الحرية الشخصي، وأحال وجوده كله إلى معركة يبذل فيها ألصق ما بالنفس مما يملكه الإنسان، جسده حتى أدقّ الخلايا فيه، وأعصابه، وغاية ما يتعلق به المرء في الحياة الدنيا، أهله وأطفاله، ولا يقل عن ذلك فرادة، أن أهله وزوجه يتصرفون بالبطولة الاستثنائية ذاتها، انحيازا تاما لخيار محمد، وإيمانا كاملا بمعركته وقضيته ونبل مقاصده وأهدافه، فضلا عن إدارتهم الإعلامية والحقوقية والشعبية المتميزة لقضيته، في حالة كفاحية فريدة يمتزج فيها الأهل وابنهم صاحب القضية في المعركة ذاتها.
وسيبقى محمد رمزا لحالة كفاحية فريدة، لعله استفاد بعضا من سمات فرادته منها، فقد كان من أشهر إعلامييها وأجرئهم، وأوضحهم وأكثرهم صراحة في الحق والانحياز للشعب، وتعلقا بملحمته الجارية التي ترتفع وتيرتها هذه الأيام مع زحف محمد بجسده الضامر إلى تخوم الشهادة، وكأنه يمنح الجماهير من عافيته وحياته، ويأخذ من جسده؛ كي يعطي ملحمة شعبه مزيدا من العنفوان، وقد صارت الفعالية الشعبية المساندة لمحمد القيق الحدث الأبرز في سياق التفاعل الجماهيري مع "انتفاضة القدس" التي انطلقت في الأول من تشرين أول/ أكتوبر من العام الماضي.
وسيبقى محمد عنوانا لمبادرة فردية أخذت على عاتقها محاولة كبح السلاح الأهم الذي تواجه به المنظومة الصهيونية نضال الشعب
الفلسطيني، في القدس والضفة الغربية على وجه التحديد، والذي تمكّنت طويلا بواسطته من ضرب نضالات الشعب واستنزاف كوادره العاملة وقطع ديمومة كفاحه، وهو سلاح الاعتقال عموما، والاعتقال الإداري خصوصا، الأكثر فاعلية من القتل والقصف والهدم في احتواء نضالات الشعب الفلسطيني، وإنهاك المناضلين وأسرهم.
في هذا الظرف، وبهذه الأبعاد، تكتسب معركة محمد كل هذه القسوة، ولهذه الأسباب، ولأسباب أخرى، ينتقم الاحتلال اليوم من هذا البطل، وينتقم به من كفاح الفلسطينيين الجاري، ويجد الاحتلال نفسه في معركة بالغة الخطورة والأهمية بالنسبة له، وهي معركة الاعتقال الإداري، ولهذه الأسباب يدين الفلسطينيون لمحمد أيضا، محمد الذي تكثفت فيه الملحمة الدائرة، وصار فصلا أساسيا لا يعبّر عن
الأسرى فحسب، ولكن أيضا عن القدس والمسجد الأقصى، وكفاح الفلسطينيين ضد الاستعمار، فهو جزء وشيج من مضامين المرحلة الكفاحية الراهنة.
ومحمد بهذا يمتحن الفلسطينيين جميعا، ويضع خلايا جسده كلها على جرحهم الدامي، وكأنه لا يكشف الخلل وعمق الأزمة فحسب، شعبيا وفصائليا ورسميا، ولكنه يبحث عن أفق يرفع الجميع إليه، وهذه العظمة التي يدين لها الفلسطينيون اليوم، لا يمكن الوفاء بحقها، فضلا عن الصعود إلى آفاقها، إلا بامتحان النفس، والوقوف على الحقيقة العارية، والإجابة الصادقة عن موقع الجماهير عامة مما يجري، وعن دورهم المجتمعي تجاه الأسرى وذويهم، والعجز الهائل والمزمن الذي تعاني منه الفصائل، والانحدار الخطير الذي بلغته السلطة الفلسطينية، حتى باتت عاجزة عن إنقاد صحفي فلسطيني من الموت في الاعتقال الإداري، أو شنّ حملة إعلامية وحقوقية مكافئة لقضيته الوطنية والإنسانية.