يوجد بعض العقلاء في بلدي لا يروقهم (الحال المائل) لذلك بدأت تتعالى أصوات مختلفة وتتجاوب عن بعد بضرورة التوقف عن الحروب الداخلية التي تعدم أمل الشباب في ثورته وتحبط آماله الحقيقية في التغيير. فخمس سنوات من صراع الإخوة الأعداء لم يحبط
الثورة فحسب بل وصل إلى تهديد وجود الدولة نفسه. وقد جاءت قضية الحاوية البلجيكية لتكشف مقدار هشاشة النظام أمام الضغوطات الدولية وفقر حجته أمام شعبه وتشتت الطبقة السياسية في ما يتعلق بالموقف الضروري الموحد من قضية السيادة و هيبة الدولة.
هناك يقين سائد أن الأجهزة الفاسدة تعبث بمقدرات الدولة الداخلية وسمعتها في الخارج والأحزاب السياسية يسارها ويمينها يكبلها خوف غريب من الإصداع بالحق فتهرب إلى صراعاتها القديمة لتجيّش أنصارها في عراك داخلي سخيف وهدام ينتهي بدوره إلى تنفير الناس من الاهتمام بالشأن العام وكل هذا يدفع الجميع إلى زاوية الخيبة والإحباط ولا أحد إلا قلة صادقة يتوجس من إمكانيات الانفلات خارج كل النظم والقوانين المرعية للإجهاز على ما تبقى من المؤسسات والقيم التي نظمت الحد الأدنى من التعايش.
سقوط الإيديولوجيات وبقاء الأحقاد
يتحدث الجميع في
تونس عن نهاية عصر الإيديولوجيات ودخولنا تحت مظلة الليبرالية الجديدة المعولمة وأنه يمكن أن نناور ضمن الأحلاف وتعدد الرؤوس ونبني ولاءات على أساس المصلحة الوطنية أولا بما يعني الخروج من دائرة التحزب الكلاسيكي للحرب الباردة. حيث تصبح قاعدة التحشيد السياسي الآن هي البرامج الفعالة التي تنفع الناس.
لكن الوضع في الداخل مازال مشتتا طبقا لما كان عليه عند نشأة مجموعات الأحزاب المؤدلجة وهنا عقدة المرحلة التي تفرض الخروج من هذه الشرنقات العقائدية المميتة. والاتفاق حول محاور عمل توضع خارج المناكفات السياسية اليومية.
فعلى الأرض وبشكل يومي نرى مافيات السلطة والمال التي انطلق من عقالها (من نفوذ اللص الوحيد) قد استشرست فهي تستولي كل منفعة متاحة بقانون أو بغيره. وتعرف هذه المافيات معركة الإيديولوجيين وتفهمها جيدا لذلك تصب على نارها زيتا لتلهبها فينشغل هؤلاء بمعركة قديمة. ويعرف الإيديولوجيون أنهم يخسرون معركتهم ومعركة الوطن أمام المافيات الصاعدة والقديمة لكنهم يستمرون في عراك الديكة بل يتحولون إلى أزلام لهذه المافيات إذ يرونها تمول أحزابهم ثم تملي عليهم مواقفهم وتعمق جروحهم الداخلية فيرتهن قرارهم لمشاريعها الفاسدة.
المرحلة تقتضي مراجعات عميقة وشجاعة وإيثار سياسي غير مسبوق ينهي وضع الصراع الجانبي ذي الطبيعة الثقافية ويقدم أولويات الوطن على أولويات الأحزاب والعقائد الجامدة وقد بدأت المؤشرات على ذلك بصفة فردية لكن المعركة تحتدم وتقتضي التسريع في إعادة بناء التصورات الوطنية المشتركة.
بعض وجوه الخطر الكامنة في مشهد ديمقراطي هش.
عودا إلى أسس الخلافات القديمة يعاين الملاحظ الكثير من استمرار المواقف الجامدة. التي عاشت بها التيارات السياسة منذ منتصف القرن العشرين لا تغيرها. رغم أن الواقع قد تحرك وتغير وانكسرت أحلاف ما بعد الحرب الباردة وأطروحات التقسيم لصالح أطروحات التعاون والتعايش. وكأن الأحزاب العربية العقائدية تستشعر أن كل مراجعة فناء لها أو نقض لتاريخ مغلوط عاشت عليه واستثمرت فيه قياداتها وتمتعت بعائده المادي قبل الفكري. ومدار المعركة المغلوطة هو الموقف من الإسلاميين. حيث مازلنا نسمع خطابا عن حقهم في الحياة فيما تطور آخرون إلى موقف هم هنا لكني لا أراهم. ويرد الإسلاميون لا أرى إلا من يراني. وتنغلق الدوائر على أصحابها كل يرمي كرة الإقصاء على غيره.
عاشت فصائل اليسار التونسي ( والعربي عموما) من خطاب نقض الأنظمة القائمة بعمل ثوري ووضعت الإسلاميين جميعهم دوما في خانة القوى الرجعية مانحة نفسها موقع التقدمي الوحيد على الأرض.
ورغم أنها انتهت بعد الثورة أحزابا تعمل في إطار ليبرالي وتجلس قرب الإسلاميين في البرلمان إلا أنها تصر على دمغهم بالرجعية والخيانة وزادتهم الإرهاب فلم ترهم أبدا جزءا من الشعب بل ظلت تعمل على محقهم لا فقط حرمانهم من حقوقهم في المشاركة. وقد ذهبت إلى بناء أغرب التحالفات السياسية من أجل تنفيذ مهمة واحدة عاشت من أجلها دون أن تكتشف أنها ثمرة زقوم عليها قبل غيرها. أن ترى البلد بلا إسلاميين. وهي ما تفتأ تتربص لتحقيق هذه الغاية بقطع النظر عن فائدتها للوطن. وما اعتصام باردو منا ببعيد. فقد كان على طاولة اليسار أن يقتل 20 ألفا إذا كان ذلك ينهي وجود الإسلاميين من تونس.
ويعيش الفصيل القومي العربي (هم في الحقيقة تنظيمات كثيرة بفكرة واحدة) معركة المنصة بعد. ورغم أن القومي العربي التونسي ساهم في قيادة الحراك الثوري في 17 ديسمبر( قبل أن يدمغه بنظرية المؤامرة) وقبل مبدأ التحول السياسي السلمي عبر المؤسسات وساهم وشارك بفاعلية ودخل البرلمان إلا انه يرفض ذلك لغيره ويعتبر الإسلاميين قد اعتدوا على أحلافه الخارجية بطبيعة ولاءاتهم الخيانية (صناعة المخابرات) ولذلك هو يجلس إلى جانب الإسلاميين في البرلمان ولا يمنحهم صفة الوطنية ولا يقبل التعايش معهم طبقا لشروط العمل السياسي الليبرالي الذي أخرجه من ظلمات الدكتاتورية إلى نور الحرية السياسية. كل إسلامي عند القومي إخوان مسلمين إذن هو عدو لا يمكن العمل معه ولو اقتضى الأمر أن يتحالف القومي مع العسكر فالمهم هو قطع الطريق على الإخواني كي لا يكون في أية سلطة.
في مقابل هذا الإقصاء الجذري يحتمي الإسلاميون بزعم امتلاكهم للحقيقة الربانية فلا يرون غيرهم في دائرة الإيمان ويصدرون في فعلهم عن إقصاء عقائدي مخيف للجميع. ويفتح بعضهم معارك خاطئة لمراقبة ضمائر الناس. وقد زاد إرهاب التنظيمات الإسلامية المتطرفة في دمغ كل الإسلاميين بالتطرف وأعطى ذريعة مريحة لعدم التعامل معهم. وربما كان البعض من اليسار (الثقافي خاصة) ينتظر هذه الوصمة ليبني عليها المزيد من حصار الإسلاميين ومقاطعتهم في انتظار توفر فرصة القضاء عليهم.
لكن رغم القطائع الظاهرة فإن التعايش مستمر بعد. لكنه غير منتج لمشروع مشترك بما يترك السؤال عن أسس التعايش مفتوحا. هل أن التعايش الشكلي القائم الآن في تونس بين اليسار والقوميين من جهة والإسلاميين من جهة ثانية هو بداية تأسيس حقيقي للتعايش الدائم في الإطار السياسي الليبرالي غير العقائدي أي هل أنه تعايش قائم على مراجعات جذرية أم أنه سكوت الأضعف تحت ضرورة ميزان القوى المائل لصالح الإسلاميين (بالعدد خاصة) وليس إيمانا بالديمقراطية فعلا ؟.
آن أوان المراجعات العميقة على قاعدة حماية الوطن.
كم بودي أن أنظر إلى ما يجري الآن من عمل سياسي قبلت على إثره التيارات العقائدية مبدأ التداول السلمي على السلطة عبر صندوق الانتخاب على أنه مراجعات فعلية إستراتيجية لفكرها وتغيير فعلي لتكتيكاتها العملية في التعايش والتداول الطويل الأمد إذ أن كراستها القديمة كانت ترفض ذلك بشكل جذري وتبرر الانقلابات والقفز على ظهر الدبابة إلى السلطة ومحق مخالفيها على طريقة نظام الأسد في حماه السورية. وعلى طريقة السيسي في رابعة. كم بودي أن لا أراها خضوعا ذليلا لمقتضيات موازين القوى الداخلية (في تونس طبعا) التي يملك فيها الإسلاميون ثقلا انتخابيا حماهم حتى الآن من التصفية ومكنهم من سلطة ومن قدرة على المناورة لحماية أنفسهم أولا وللبقاء في ساحة الفعل والمشاركة ثانيا. وكم بودي أن يكون خطاب المراجعة المعلن من أكبر فصيل إسلامي في تونس (النهضة) خطابا مؤسسا لفكر جديد وفعل سياسي غير تكفيري يقطع مع تراث الحركات الإسلامية المشرقية.
إعادة الاتفاق حول الوطن
هذا التفاؤل الحذر هو أقرب إلى الأماني منه إلى بناء على وقائع لأن المراجعات لا تتم بوعي بالمستقبل بقدر ما تحاول استنزاف الحاضر والتربص بالاحتمالات وهو الأمر الذي خلق الولاءات المشبوهة مع المافيات الداخلية ومع الأنظمة الخارجية بقصد الاستقواء على شركاء الداخل. فلا معنى أن تكون في وضع ديمقراطي وتساند انقلابا عسكريا أن لم يكن لك غرض الاستناد عليه لاحقا لإنجاز انقلابك الخاص. ولا معنى أن لا تراجع وتصحح وقد رأيت ثمرة الانقلاب على الديمقراطية حيث الدبابة تمحق المظاهرة السلمية. ولا معنى أن تعلن المراجعة الجذرية وأنت تروج لخطاب ديني يحكم على الآخرين على النوايا الباطنة على ظاهر الأفعال الملموسة.
لكن كيف تكون المراجعة؟ وحول ماذا يمكن الاتفاق لتجاوز حالة النفرة المهلكة للزرع والضرع؟ وقد فضحت قضية الحاوية الجميع.
أقدر أن الاتفاق حول سلامة الوطن لم يتأخر بعد. ويمكن اعتبار الخلافات القائمة تمهيدا قسريا لاتفاق جديد أو عقد تعايش بين المختلفين/ المتفقين حول سلامة الوطن من التخريب الداخلي الذي استنزف قدراته بالفساد ومن التخريب الخارجي الذي جعل البلد مرتعا خصيبا للجواسيس العالم.
إن الوطن في خطر يهدد سلامته وبنيانه وليست أجهزة الحكم هي المقصودة لذاتها بل الوطن ومشروعه السياسي الذي انبثق رغم كل هناته من ثورة حق لا من مؤامرة. بعض العقلاء في بلدي يستشعرون ذلك ويجب الإصغاء لصوت النذير حتى لا ينطق صوت النفير.