قضايا وآراء

ليبيا بعد خمس سنوات.. من "الثورة" إلى "الجهاد"

1300x600
حلّت الذكرى الخامسة على إسقاط نظام معمر القذافي (17 فبراير 2011ـ 17 فبراير 2016) دون أن يعيش الليبيون مُتعة الاحتفال بحراكهم الاجتماعي، ويتذوقوا ثمار انتصارهم على اثنين وأربعين عاما من القهر السياسي، بل وجدوا أنفسهم أمام وضع متأرجح بين التمزق والفشل.. فلا هم حققوا حُلم تضحياتهم من أجل بناء دولة جديدة بشرعية ومؤسسات جدبدة، ولا هم تغلبوا على فرقتهم وتنازع إراداتهم وفتحوا أفقا حقيقيا لإعادة تأسيس ليبيا الجديدة.. ليبيا ما بعد الثورة بمتطلبات روح الثورة. وللمرء أن يتساءل: هل كان جديرا بالليبيين أن يقبلوا في الذكرى الخامسة لانتصارهم على أطول نظام مُستبد في القرن العشرين وبداية الألفية الثالثة أن ترفع طائفةٌ منهم عَلَم البلاد في طرابلس، وعلى مسافة 450 كلم منهم يَرفع تنظيم داعش "رايةَ الجهاد" في مدينة سرت الساحلية؟

قد يقول قائل إن تلك هي مفارقات التغيير، وكل تغيير حَمّال بطبيعته للمفارقات.. ألم تعِش الثورات الكبرى في التاريخ مفارقات وأضدادا وإن بأشكال مغايرة؟ ثم إن التغيير مفتوحٌ على المدّ والجزر، والصعود والنزول، والأهم في النهاية أن تأخذَ جدليةُ التغيير طريقَها القويم وإن بعد وقت طويل.. وقد يَستدِلُّ أصحابُ هذا الرأي بما حدث للثورة الفرنسية، والروسية وغيرهما.. الجواب أننا أمام حالة (ليبيا) لا تنطوي على عناصر المقارنة، وكما يقول الفقهاء: "لا قياسَ مع الفارِق". فليبيا ورثت تركةً ثقيلة ًمن النظام المُنهار، ورثت فراعا مؤسسيا على كل الصُّعُد، ووجدت نفسها أمام فراغ مُهول لكل منظمات التواصل والوساطة، من أحزاب، ونقابات، وجمعيات مدنية، وحتى الجيش ظل مفتقداُ لمقومات الجيوش العصرية، من عقيدة، وولاء للبلاد، واستعداد للدفاع عن الكيان الجمعي لليبيين. ثم إن النعرة القبلية والعشائرية التي سعت الدولة الوطنية بعد الاستقلال (1951ـ 1969) إلى تذويبها في مشروع بناء الاندماج الوطني، تمّ إحياؤها من جديد بأساليب وطرق كثيرة، أبرزها التمييز غير المشروع، وشراء الولاءات بالتوزيع غير العادل للريع النفطي، وشراء الذمم، ناهيك عن الإختلالات الترابية على صعيد الجهات والمناطق.

والواقع أن صعوبات إعادة بناء ليبيا الجديدة لا تكمن في إرثها الثقيل، وهو على درجة بالغة الأهمية والتعقيد، بل يرتبط أيضا بالسياق الدولي والإقليمي، حيث ازدادت شهية الفاعلين في اقتسام ثرواتها  ومقدراتها الطبيعية، وقد كشفت تقارير الخبراء والباحثين حجم شراهة شركات النفط  (إلف- ELF تحديدا) وبعض الدول الإقليمية في السعي بقوة إلى الاستحواذ على خيرات هذا البلد ذي المساحة الشاسعة، والإمكانيات الهائلة في مادتي النفط الممتاز والغاز. ولنا أن نتساءل: لماذا كان تدخل حلف "الناتو" سريعا؟ ولماذا تُركت ليبيا تواجه مصيرَها لوحدها بعد سقوط النظام مباشرة ؟ ألم يكن من مسؤولية هذه المنظمة وضع خطط و سيناريوهات لإعادة بناء ليبيا الجديدة، على شاكلة ما وقع في حالات أخرى من غير بلاد المنطقة العربية؟

قد يعترض مُعترضٌ فيقول: لقد بذلت الأمم المتحدة جهودا من أجل بناء السلام في ليبيا وإعادة الشرعية إلى مؤسساتهاَ، وقد تُوجهت مساعيها بإبرام اتفاق " الصخيرات" المغربية (بداية العام 2015)، وتشكيل حكومة وفاق وطني، كما ألزمت الفرقاء المتصارعين في ليلبيا بالانضمام إلى  هذا التوافق، والتخلي عن الحكومتين والبرلمانيين المُوزَّعين على "طبرق" في شرق البلاد و"طرابلس" في غربها.

الجواب هو أن الجهود الأممية جاءت متأخرة، بعدما تُرك "الحبلُ على الغارب"، كما يُقال، والأكثر خطورة بعدما أصبح السلاح منتشرا في كل مكان، وبعدما تمدّدَ تنظيم داعش في البلاد وسيطر على هلال النفط والغاز.. إن المسؤولية الدولية كبيرة وكبيرة جدا، وسيكشف التاريخُ حجمَ ما فعلت بعض القوى الدولية والإقليمية في الأرض الليبية.

أعلن مسؤول من وزارة الدفاع الأمريكية عشية الذكرى الخامسة لانطلاق "الثورة" الليبية عن قصف موقع لتنظيم داعش في مدينة صبراتة، أودى بحياة أربعين شخصا، بما فيهم الرأس المطلوب والمدبر للعمليات الإرهابية في تونس.وبينما أكد المسئول الأمريكي على أن القصف تمّ بعلم من الجيش الليبي، وبتقنية لا تنمّ عن نية في التدخل البري إلى الأراضي الليبية، فإن مصادر ليبية أخرى نفت حقيقة هذا العِلم والتنسيق، وأعادت التأكيد على خطورة أي تدخل عسكري من قبل القوى الدولية والإقليمية في ليبيا.. فكيف يُفهم هذا التباين؟ وهل في مُستطاع الفرقاء المتصارعين في ليبيا التوافق على تدعيم مشروع المصالحة الوطنية وإنقاذ البلاد من اكتساح داعش لأراضيه؟

ليس بإمكان أي متابع للعملية السياسية في ليبيا التفاؤل بقدرة الوضع الداخلي الليبي على الانعطاف في إتجاه تدعيم خطوات المصالحة الوطنية، كما وضع خُطاطة مسارها أتفاق "الصخيرات"، على الرغم من الإعلان عن تشكيل الحكومة المصغرة، والتفاؤل بقدرة أعضائها على المضي قُدما نحن المصالحة الوطنية، وإنقاذ البلاد. ويبدو في المقابل صعوبة الإقدام على قرار التدخل العسكري المباشر، كما حصل للناتو في بحر العام 2012. وإذا ثبت التدخل فعلا بعد عملية قصف صبراتة، مع ما قد تعقبها من عمليات، فإن كثيرا من التطورات ستشهدها الساحة الليبية، وقد تكون لها آثار سلبية على العملية السياسية برمتها، لأسباب تتعلق باعتراض مجمل مكونات المشهد السياسي والمدني الليبي على التدخل الأجنبي.. إن ليبيا في حاجة إلى دعم أدولي وإقليمي يعزز فرض السلام والمصالحة في ربوعها، لا إلى زيت تُصبُّ في النار المشتعلة، فتؤجج لهيبها أكثر فأكثر.