كتاب عربي 21

فـ"دولة السيسي قليلة الحيلة"!

1300x600
هكذا بدت "دولة عبد الفتاح السيسي" عاجزة عن التعامل مع إجرام أفراد الشرطة، وسعت للإيحاء بأنها "قليلة الحيلة" لا تملك التشريعات اللازمة للتصدي لهذا الإجرام!

فعقب حصار أهالي منطقة "الدرب الأحمر"، الشعبية والتاريخية، لمديرية أمن القاهرة، بسبب إطلاق "أمين شرطة" النار على أحد الأهالي فأرداه قتيلا، استدعى "السيسي" وزير داخليته ليلتقي به؛ ولأن الاستدعاء تم الإعلان عنه، فقد ظن كثيرون أنه سيقيل الوزير، لامتصاص ثورة الغضب، فإذا به يتصرف كمبارك، الذي كانت قرارته في ثورة يناير تأتي دائما متأخرة، على نحو يوحي أنه يعاني من مرض الفهم المتأخر، لكن ما كان يحكم أداؤه هو أنه كان عنيدا، وكان يؤمن بسياسة عدم التنازل للشعب حتى لا يطمع، وكان دائم القول أن أحدا لن "يلوي ذراعه"!

كان مبارك في تشكيل الحكومات، يبتعد تماما عن الأسماء التي ترشحها الصحف أو التي تتسرب إليها، فكان يكفي أن تعلن الصحف عن موعد لتغيير الحكومة حتى يخلفه، وعن اسم لشغل موقع فيها حتى يستبعده، وفي ذات مرة كتبت مقالا منتقدا الكاتب الراحل "جمال بدوي" على حملة قام بها في جريدة "الوفد" ضد ما سمي بالصحافة الصفراء، ومثل هذه الحملات كانت تمثل قنابل الغاز التي يرتكب النظام تحت تأثيرها جرائمه ضد الصحافة، وبدأت المقال بهذه العبارة: "سيعين جمال بدوي عضوا في مجلس الشورى ثمنا للحملة التي يقوم بها ضد الصحافة الصفراء".

وبعد أسبوعين من نشر هذا المقال، وفي صباح اليوم الذي سيتخذ فيه مبارك قراره بتعيين ثلث أعضاء الشورى، كان "جمال بدوي" يتقدم باستقالته من رئاسة تحرير صحيفة "الوفد" لأن حزب "الوفد" كان يرفض التعيين في المجالس النيابية، وبعد عدة ساعات من تقديم الاستقالة وإعلانها صدرت التعيينات خلوا من اسم "جمال بدوي".. فقد كنت أعرف كيف يفكر صاحب القرار!

لقد أراد السيسي بالإبقاء على وزير الداخلية أن يخالف التوقعات، لأنه تلميذ نجيب في مدرسة حسني مبارك، ولأنه لا يريد أن تصل رسالة للشرطة بأنها يمكن أن تدفع ثمن تصرفاتها الخاصة، وإن وصلت للقتل والتحرش ومحاولة الاغتصاب كما حدث من "أمين شرطة" في إحدى محطات "مترو الأنفاق"، فتحجم عن تصفية الخصوم السياسيين عندما يكون هذا طلبا من السلطة!

وإذا كان هناك تشكيل وزراي قادم، فيمكن إبعاد وزير الداخلية، فيكون خروجه من باب الضرورة التي تقدر بقدرها، فبعد تحميله كل الجرائم التي ارتكبت من أفراد جهازه ضد المواطنين أمام الرأي العام، لا يفهم ضباط وأفراد الوزارة أنه أقيل بسبب الجرائم التي تم ارتكابها!

لقد تم الضحك على الذقون بإعلان أن "السيسي" طلب من وزير الداخلية وضع تشريع يتصدى لمثل هذه الممارسات من الشرطة، ضمن سياسة إدخال الغش والتدليس على الناس في هذه القضية!
فمثل هذا الكلام يوحي بأن التشريعات القائمة تبيح قتل أفراد الشرطة للمواطنين بالسلاح الميري، كما توحي بأنه لا يوجد في قانون العقوبات نص يجرم هذا الإجرام!

ثم بدأت سياسة "الضحك على الذقون" تتوسع بمحاولة اختزال هذه الجرائم في شريحة معينة في جهاز الشرطة هم "الأمناء"، وعليه بدأ الإعلان عن أن هناك اتجاها لإلغاء معهد أمناء الشرطة الذي تخرجت فيه هذه الفئة، وأحد النواب قال إنه سيتقدم بمشروع قانون لمجلس النواب بإغلاق المعهد، ليذكرنا هذا بعادل إمام في مسرحية "شاهد ما شفش حاجة"، عندما قال إنه تم إبلاغه بفاتورة من هيئة التليفونات تحذره بأنه إن لم يدفع قيمة الفاتورة فسوف تقوم برفع "العدة"، أي "عدة التليفون"، رغم أنه لا يملك هاتفا من أصله، ومع هذا فقد خاف على "العدة"!

فمنسق ما يُعرف بائتلاف أمناء الشرطة، قال في تصريحات سابقة إن المعهد مغلق منذ عشر سنوات. لكن ماذا نقول في سلطة تريد للشعب المصري أن "يأكل الأونطة"!

ومن "الأونطة" كذلك اختزال جرائم الشرطة في حق الشعب في فئة الأمناء، مع أن من قتل الناشطة السياسية "شيماء الصباغ" في مظاهرة سلمية كان ضابطا وليس أمين شرطة. 

وأن من اعتدى على مواطن في محافظة أسيوط في اليوم التالي لهذا الاجتماع أمام زوجته كان ضابطا وليس أمينا. 

وأن من قتل "سيد بلال" هو ضابط!

ومن رفض تحرير محضر بمحاولة "أمين شرطة المرج" اغتصاب سيدة تحت تهديد السلاح، كان مأمور القسم وهو ضابط، ومن هدد زوج السيدة بتلفيق قضية مخدرات له إن لم يغادر قسم الشرطة كان معاون مباحث وليس أمين شرطة!

ضمن سياسة الالتفاف التي يمارسها "حكم السيسي"، تم الإعلان عن أن الأزمة تعود إلى الإخوان المسلمين وحكمهم، لأن "حبيب العادلي" وزير الداخلية في عهد مبارك، كان قد عزل أمناء الشرطة الفاسدين، فأعادهم "حكم المرشد" بعد الثورة، ومما قيل إن أمين الشرطة الذي قتل مواطن "الدرب الأحمر" هو من هؤلاء الأمناء، الذين عزلتهم دولة مبارك لفسادهم وأعادتهم دولة مرسي!

وهو أمر يذكرنا بما لا يزال يتردد منذ الانقلاب العسكري إلى الآن، من أن الإرهابيين الذين كانوا من السجون في عهد مبارك، أفرج عنهم محمد مرسي، وهناك من قال إن الذين تم الإفراج عنهم هم من يرتكبون الجرائم في سيناء وغيرها، ومن الأسماء التي ذكرت ضابط المخابرات الحربية السابق "عبود الزمر"، مع أنه مؤيد للسلطة الحالية، و"محمد الظواهري" ولأنه شقيق قائد تنظيم القاعدة "أيمن الظواهري"، فقد تم توظيف اسمه من إعلام الانقلاب والمحللين الاستراتيجيين ليصولوا ويجولوا!
لقد وضعت النقاط على الحروف مبكرا، فهذه الأسماء خرجت في عهد المجلس العسكري، و"الظواهري" كان قد أدين بالإعدام بحكم للمحكمة العسكرية، عدلت عنه بعد الثورة إلى البراءة، وفي سلطة المشير محمد حسين طنطاوي!

ومع ذلك، وقبل أيام كنت في استوديو "الجزيرة مباشر" وأعلن الكاتب الصحفي "سليمان جودة" أن مرسي أفرج عن الإرهابيين، دون أن يهتز له رمش!

لقد كذبوا وصدقوا أنفسهم، وها هم ينتجون واحدة مثلها؛ ذلك بأن أمناء الشرطة المستبعدين عادوا للخدمة في عهد المجلس العسكري أيضا.

لا بأس، لقد أعاد "حكم الإخوان"، هؤلاء الأمناء الفاسدين، فهل الإخوان يمنعون الآن عبد الفتاح السيسي من تسريحهم؟!

إنه سلوك جحا نفسه، الذي سئل يوما عن أذنه؟ فحرك يده اليمنى وراء ظهره ليمسك أذنه اليسرى ويقول ها هي. 

"بيت القصيد" هنا هو أن الشرطة عادت لتنتقم من الشعب المصري بعد هزيمتها النكراء في يوم جمعة الغضب 28 يناير 2011، وهي في مأمن من المحاسبة والعقاب، فقد قصرت الثورة في عملية هيكلة وزارة الداخلية، وتواطأ "حكم الإخوان" وأبقى الأمر على ما هو عليه، ومن أقيل من الضباط بقوة الدفع الثوري عاد لموقعه بعد الثورة المضادة في 30 يونيو!

و"السيسي" يوفر لهم الحماية لأنهم "عزوته" فلا يستأمن الجيش رغم كل ما قدمه له، ورغم أنه جاء من بين صفوفه، فالسادات كان يصف ضباط الجيش بأنهم أبناؤه، ومع ذلك فقد اغتاله هؤلاء الأبناء.
ولأنهم "عزوته"، فالسيسي لا يريد أن يقدموا للمحاكمة على جرائمهم، التي يتصور أنها مهمة على أساس أنه يجد حمايته في إرهاب الشعب والقتل بهذا الشكل مما يفزع الناس، ويرهب المجتمع، فتدين له الوجوه فلا يسمع حتى همسا.

لكن كانت المفاجأة في ردة فعل أهالي "الدرب الأحمر"، فلف ودار، ولت وفت، دون أن يواجه المشكلة من جذورها بمحاكمة الجناة، فدولة مبارك استعانت بالشبيحة في السياسة وهو ما فعله الانقلاب العسكري تحت لافتة "المواطنون الشرفاء"، لكنّ هؤلاء "المواطنين"، فقدوا حماسهم للنظام الجديد، لسبب مهم وهو أن الشرطة عادت لتنتقم منهم، فلا تنسى لهم ما فعلوه بها عقب انسحابها في ثورة يناير!

لقد كان حضور البلطجية طاغيا في يوم جمعة الغضب، وكانوا شركاء في حماية الحكم كتفا بكتف مع رجال الشرطة، لكن لأن سيكولوجية البلطجي ألا يدخل معركة خاسرة، فعندما فوجئ البلطجية بكثافة الحشود فقد تراجعوا عن المواجهة، وتحولوا إلى متفرجين، وعقب الهزيمة، قاموا باقتحام أقسام الشرطة، ولأن العلاقة بينهم وبين الضباط لم تكن قائمة على "الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة"، فقد كانوا تحت سيف القهر، فقد وجدوا أن الثورة حررتهم وكل من له مشكلة مع ضابط انتقم لنفسه في هذه الليلة، فلم يكن الذين سطوا على المحلات التجارية من الثوار، ولم يكن الذين أمروا مأمور أحد أقسام الشرطة أن يخرج للشارع بملابسه الداخلية من المتظاهرين، بل لم يكن الذين أشعلوا النيران في المقر الرئيسي للحزب الوطني (الحاكم) ونهبوا محتوياته، سوى من هؤلاء الذين تم استدعاؤهم للاعتداء على المتظاهرين كما يحدث في كل المظاهرات!

عقب الانقلاب استعانت الشرطة بالبلطجية لمواجهة مظاهرات قوى الشرعية، وبمرور الوقت فتر حماس هؤلاء البلطجية، مع تذكر الشرطة للثأر القديم، وإذا كان لابد لأي حكم مستبد من بلطجية، فإن الانقلاب قرر أن يكون "زيته في دقيقه" فما حك جلدك مثل ظفرك، فكان الأمناء هم البديل الاستراتيجي للشبيحة!

لكن دولة السيسي فوجئت برد الفعل في أسوان، وأسيوط، والدرب الأحمر، فليس كل الشعب المصري كالإخوان يُقتلون ويُعذبون، فيهتف هاتفهم "سلميتنا أقوى من الرصاص".

وأمام الرسالة التي وصلت للسيسي جاء ليتعامل بمنطق الدولة "قليلة الحيلة" و"مكسورة الجناح"، التي لا تملك صدا ولا ردا في مواجهة من أعادهم الإخوان إلى وظائفهم، كما أن التشريعات لا تمكنها من ضبط هذه الممارسات.

كأنه يخطب شعبا من المغفلين!