من أراد أن يقف على قوة تأثير الدعاية على وعي الناس، فلينظر كيف نجحت في تحقيق الإيمان المطلق بأن الجيش
المصري حمى
ثورة يناير!
يقولون: "الزن على الآذان أمر من السحر"، وهذا ما فعلته الدعاية، حتى بات الإجماع منعقدا بين كافة الأطراف على أن الجيش ممثلا في قياداته، أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة برئاسة المشير محمد حسين طنطاوي، وزير الدفاع، قد انحاز للثورة، مع خلاف في التفاصيل بين الغلاة على الجانبين. فبينما يكاد البعض يجزم بأن الثورة كانت فعلا خالصا من قبل القوات المسلحة، فإن البعض الآخر يهوّنون من دورها، فهي فقط حمت الثورة في البداية، "لحاجة في نفس يعقوب قضاها"، وتتمثل في وقف سيناريو توريث الحكم، الذي كانت القوات المسلحة ترفضه وتقف في مواجهته، فلما نجحوا في هذا نفضوا أيديهم من الثورة وأعادوا نظام مبارك.
فهل كان قادة الجيش وأعضاء المجلس الأعلى ضد التوريث فعلا؟!
الذين يرون في الثورة فعلا خالصا لقادة الجيش أيضا يرجعون هذا إلى قيامهم بالثورة من أجل منع التوريث، مع اختراع أدوار وطنية لوزير الدفاع، مثل ضجره من عمليات بيع القطاع العام، حتى إنه صرخ فيهم في اجتماع مجلس الوزراء وهم يناقشون خصخصة بعض وحدات القطاع العام.
وتقول الأسطورة إنه قال لهم "كفاية"، فأغلق الوزراء على الفور الملفات المفتوحة، وتصبب رئيس الوزراء عرقا، وانتقل لجدول الأعمال.
ولا ندري كيف سكت على بيع كل ما بيع من القطاع العام، وفي صفقات فساد معلومة للقاصي والداني، وكيف صمت ونظام مبارك يبدد المصانع والشركات المملوكة للدولة وبتراب الفلوس، وبأسعار أقل من قيمة الأرض المقامة عليها؟
وكيف سكت والنظام الحاكم يقوم بتمكين مجموعة من الفاسدين من مقدرات الوطن، ومن أراضي الدولة، مع أنه كان قادرا على أن يوقف المهزلة بكلمة واحدة وهي "كفاية"، التي إن صح نسبتها إليه فإنها تكون بعد "خراب مالطة"!
الحديث عن الجيش الذي حمى الثورة، يعتمد على صورة غير مكتملة، فهو يركز على لحظة حضور مدرعات القوات المسلحة إلى
ميدان التحرير في نهاية يوم عاصف هو يوم جمعة الغضب 28 يناير 2011، والحفاوة البالغة التي استقبل بها، ولم تعرض بقية الصورة في هذه الليلة، والشباب يقومون بإشعال النيران في أكثر من مدرعة، بل ويلقون القبض على أحد الضباط، بعد أقل من ساعة من هذا الاستقبال الأسطوري، المستوحى من الثورة التونسية، مع أن هناك جوانب أخرى من الصورة بدت كما لو أنها كانت هناك رغبة من جميع الأطراف في القفز عليها، مثل ما جرى عشية موقعة الجمل، وفي يوم الموقعة نفسه، ودور عبد الفتاح
السيسي مدير المخابرات الحربية الذي جاء ليخلي الميدان من الثوار وتركه لأنصار مبارك ليعربوا فيه عن تمسكهم به بعد خطابه العاطفي الشهير!
الدعاية المكثفة صورت حضور مدرعات الجيش إلى "ميدان التحرير" في يوم جمعة الغضب، أنه كان لحماية الثورة، فهل جاءت فعلا لحماية الثورة؟!
في هذا اليوم، كان قد بلغ بنا التعب مبلغه بعد كر وفر، وبعد أن واجهتنا قوات الشرطة بالقنابل المسيلة للدموع، وبالرصاص المطاطي، حتى شعرت في هذا اليوم بأنني ولشدة الاختناق أوشكت على الموت.. ولا أعرف لماذا سيطرت علي فكرة الحفاظ على جثماني الطاهر، فطلبت من زميلي "جمال أبو عليو" وقد أغواني طول قامته بأن يحملني إذا سقطت، لكنه كان قد خيب آمالي وهو يتحدث بصعوبة كاشفة عن أن الحال من بعضه، وقد قال نصا: "لقد اعتمدت على حيطة مايلة يا ريس".
رد مضحك لكنه لحظتها كان جادا، فلم نكد ونحن نشعر بأن أرواحنا قد بلغت الحلقوم نملك القدرة على السخرية أو إنتاجها!
بالصمود السلمي والإصرار على دخول ميدان التحرير، وبالضغط من كل المنافذ المؤدية إليه، نفدت الذخيرة فولوا الدبر، لكننا لم نهتم بدخول الميدان الذي ربما دخله غيرنا من المداخل الأخرى بينما جلسنا على الأرض في ميدان طلعت حرب القريب منه من شدة التعب، وجاء زميلنا "أبو المعاطي السندوبي" من التحرير إلينا مبشرا بأن "الميدان" فتح وأصبح ملكا لنا.. فلم نقوَ على النهوض. فما دام قد فتح إذن فلنلتقط أنفاسنا ثم ندخله في أي وقت.
كان الليل قد بدأ يزحف، عندما ظهرت أول مدرعة جيش قادمة من شارع "قصر النيل"، فإذا بالجماهير تهرول إليها وإذا بالهتافات تصل إلى عنان السماء للجيش الذي جاء لحمايتنا في مواجهة الشرطة التي تضربنا، ولم ينتبهوا إلى أن الشرطة التي كانت تضربنا قبل قليل قد اختفت تماما، وأن الجيش لم يأت في وقت خيب "أبو عليو" أملي فيه!
كنت أرقب المشهد بحذر، فهذا هو الجيش الذي واجه انتفاضة الخبز في 18 و19 يناير (كانون الثاني) 1977، وذهب قائده العام "عبد الغني الجمسي" إلى قائده الأعلى الرئيس السادات في استراحته بأسوان وقد أخذ قراره بالهروب إلى السودان، ليبلغه أن الأمن قد استتب. وحصل "الجمسي" على الثمن بأن أقاله السادات بعد أن كان قد أعلن أن "الجمسي" هو وزير الدفاع مدى الحياة، فهذه قواعد اللعبة.. فالحاكم لا يبقي بجانبه من شاهده في موقف ضعف.
بدا لي أن ثوارنا يحاكون المشهد التونسي، الذي كان حاضرا منذ اليوم الأول للثورة المصرية (25 يناير) من خلال استدعاء هتاف التونسيين: "الشعب يريد إسقاط النظام"، وكان في البداية يبدو لي شعارا ركيكا في صياغته.
عندما خرج الجيش التونسي للشارع، استقبله المتظاهرون بحفاوة بالغة، وقد قفزوا على المدرعات وعانقوا رجاله. ومع هذا الحشد، وقفت متأملا، ولم أكن مبتهجا أبدا، وقد راعني الفارق بين المشهدين. في التونسي كان هناك تجاوب بين ضباط الجيش ومن يقفزون على مدرعاتهم لعناقهم، وكان لدي يقين لم يتزعزع إلى الآن أن قائد الجيش في تونس وجد الفرصة مواتية للقفز على الحكم فقرر أن ينتهزها لولا أن رغبته اصطدمت برغبة قائد الحرس الجمهوري "علي السرياطي"، وهذا ما يفسر قيام بن عمار باعتقال الأخير بعد "هروب" بن علي، مع أنه هو من دفعه للهروب لطي صفحته، بأن أخبره أن الجماهير قادمة لاقتحام القصر، وأنه لا قبل لقواته بها، في حين أن الجماهير كانت في البيوت في استجابة لقرار حظر التجول!
لم يكن هناك تجاوب، من قبل رجال
الجيش المصري لمن يهتفون لهم ولمن يعانقونهم، وبدوا كما أنهم كانوا يتعاملون مع هذه الحفاوة على مضض لتأمين تحرك أمني إلى حيث يريدون!
نظرت إلى أعلى حيث مقر حزب "الغد" وكان من يهتفون للجيش يكادون يلقون بأنفسهم من النوافذ والبلكون من فرط السعادة. وقلت في نفسي: هذا حزب جديد ومن فيه حديثو عهد بالسياسة. فانتقلت ببصري تلقاء حزب التجمع المقابل له، فقياداتهم أصحاب خبرة ومنهم من شارك في انتفاضة الخبز، لكني وجدتهم في حالة هستيريا للجيش الذي جاء لحمايتنا من الشرطة، مع أن الشرطة كانت قد تولت يوم الزحف.
هل يعقل أن يجمع كل هؤلاء على ضلالة؟ فجأة وجدتني جزءا من حالة الهستيريا ودخلنا إلى ميدان التحرير وأنا أهتف للجيش الذي جاء لحمايتنا...
ليحدث ما لم يكن على البال أو على الخاطر!