مقالات مختارة

يريد الغرب تحقيق الوحدة في ليبيا حتى يتمكن من قصفها

1300x600
كتب ديفيد هيرست: مضى ما يقرب من خمسة أعوام على تفجر الثورة في ليبيا وأربعة أعوام منذ الإطاحة بالعقيد معمر القذافي، وللتدخل العسكري عواقبه غير المحسوبة، وكان من نتائجه التمرد في مالي الذي أطاح بالطوارق، وكان من نتائجه إغراق البلاد بالسلاح محولا إياها إلى بقع تقوم في كل منها دويلة، فلا يبقى للوحدة الوطنية معها من معنى، بينما لم تبق قوة إقليمية إلا وسعت للسيطرة على هذا الجزء أو ذاك منها. 

لقد تحولت ليبيا إلى مسرح للصراعات التي تدار بالوكالة، وباتت احتياجات ومصالح الليبيين أمرا ثانويا بالنسبة للألعاب الاستعمارية الكبرى التي تمارسها دول الخليج المتنافسة فيما بينها، في حين يقدر عدد الليبيين الذين هاجروا فرارا بحياتهم ما بين مليون ومليونين من بين ستة ملايين هم إجمالي تعداد سكان البلاد. 

في هذه الأثناء؛ لم يبق للمجتمع الدولي من مصداقية تذكر، بل ذهبت كلها أدراج الرياح، ولم ير النور صندوق مارشال الذي وعد به مؤتمر مجموعة الثمانية الكبار في عام 2011 بدعم مالي تقدر قيمته بواحد وستين مليار يورو، كما أخفقت الانتخابات المبكرة في إنتاج حكومة وحدة وطنية، نعم، لقد تعذر على ديمقراطية ويستمنستر أن تهبط بالمظلة على طرابلس.  

دخل المجتمع الدولي في اللعبة السياسية، وذهب يتخير شركاءه بل ويتخير قضاياه، وتجاهل تماما حكم المحكمة العليا الذي اعتبر مجلس النواب في طبرق غير دستوري، ولكنه أيد قرارها عندما أصدرت حكمها بأن أحمد معيتيق لا يصلح رئيسا للوزراء.

ساد صمت تام – ولم يصدر أي رد فعل، ناهيك عن أن يجرى تحقيق رسمي – إزاء رسائل الإيميل المسربة، التي تظهر أن بيرناندينو ليون كان يسعى سرا، وبينما كان يعمل مبعوثا للأمم المتحدة على خدمة مصالح أرباب الوظيفة التي منحت له  فيما بعد داخل الإمارات العربية المتحدة. وتم تجاهل خطاب شكوى وارد من المؤتمر الوطني العام، أحد البرلمانين. وجرى وأد الموضوع بأسره في اليوم نفسخ الذي وقعت فيه أحداث باريس. 

كما تم أيضا تجاهل مبادرة سلمية أطلقت في تونس، بينما لم يوقف "ليونغات" الخطة التي كان ينفذها سلفه، بل مضى يدفع بها قدما بغض النظر عن كل شيء. ويوم الأحد، اجتمع في روما ممثلون عن سبعة عشر بلدا، بما في ذلك مصر وألمانيا وروسيا وتركيا والصين للتوقيع على بيان مشترك يدعو إلى وقف مباشر لإطلاق النار، ويهدد بقطع الاتصالات مع الفصائل التي لا توقع على الاتفاق. 

بعد ثلاثة أيام فقط تبدو خطط الأمم المتحدة لإقامة حفل توقيع في الصخيرات، في المغرب، يوم الأربعاء في مهب الريح. فبناء على تواقيع الأفراد من أعضاء البرلمانين في طبرق وفي طرابلس، يبدو أن الأمم المتحدة قد تجاوزت المجلسين معا. 

فقد بلغ الغضب بزعماء المجلسين، مجلس النواب المدعوم من الغرب في طبرق والمؤتمر الوطني العام الذي يتخذ من طرابلس مقرا له، أن اضطروا للاجتماع معا ولأول مرة على الإطلاق في مالطا، وقد رفض الطرفان معا سعي الأمم المتحدة لحملهما على التوقيع على الاتفاق. 

قال رئيس المؤتمر الوطني العام نوري أبو سهمين: "لقد جئنا إلى هنا حتى نعلن للعالم أننا قادرون على حل مشاكلنا بأنفسنا بمساعدة المجتمع الدولي، ولكننا لن نقبل بالتدخل الخارجي ضد إرادة الشعب الليبي".

ليست تلك فقط هي مصادر القلق بشأن خطة الأمم المتحدة. فبدلا من توحيد البرلمانين في برلمان واحد، يرى محللون مثل ماتيا تاولدو، الزميل في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، أنها من الممكن أن توجد ثلاثة برلمانات بدلا من اثنين. لم يجر التفكير في الضمانات الأمنية المطلوبة من جميع الفصائل المسلحة، قبل أن تتمكن حكومة وحدة وطنية قد تتشكل فيما بعد من الوجود والاجتماع في طرابلس. ومصدر الريبة في الأمر أن الإعلان عن صفقة بات أهم من إنجازها على أرض الواقع، فلم ذلك، ولم الآن تحديدا؟

والحقيقة هي أن ليون كان في غاية الدقة عندما وصف استراتيجيته في رسالة الإيميل التي وجهها إلى وزير خارجية الإمارات العربية المتحدة عبد الله بن زايد، حيث  قال ليون إن الهدف الأول من خطته هذه هو "كسر التحالف الخطير جدا بين الإسلاميين المتطرفين والإخوان المسلمين والمصراتيين". أيا كان تصنيفك لهم، فأنت هنا تتحدث عن طرف في النزاع مقره طرابلس. كان حلف شمال الأطلسي (الناتو) سعيدا بالقتال إلى جانب هؤلاء المتشددين عندما كان يعمل على إسقاط القذافي. 

لم يكن ليون يريد اتفاقا يمنح جميع الأطراف حصصا متساوية في المستقبل السياسي للصراع، وكان أيضا شديد الوضوح في هذه النقطة حيث قال: "لدي استراتيجية، أنا على يقين بأنها ستنجح، وخلاصتها نزع الشرعية عن المؤتمر الوطني العام".

كان الدبلوماسي الإسباني يخشى من احتمال أن يسعى الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية لإيجاد تسوية شاملة، وعن ذلك قال: “بعض الأطراف الدولية الفاعلة (وبشكل أساسي الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي) ما فتئت تطالب خلال الأيام الأخيرة بالانتقال إلى "الخطة ب"، أي عقد مؤتمر سلام كلاسيكي مع الأطراف المقاتلة أخذا بالاعتبار في الخلفية الحديث عن قوة دولية متعددة الجنسيات تابعة للأمم المتحدة. وهذا، في رأيي، خيار أسوأ من الحوار السياسي:  فبادئ ذي بدء، وكما كنت أنت قد أشرت ومعك حق في ذلك، لأنه من شأنه أن يعامل الطرفين كما لو كانا لاعبين متساويين، متجاوزا في ذلك المؤسسات الشرعية. وأيضا لأنه سوف يعني الجلوس حول الطاولة لمناقشة حل كلي يشتمل على العناصر السياسية، وعلى المسلحين، الذين قد يكون من بينهم بعض المتطرفين أو بعض حلفائهم.”

معاملة الطرفين على قدم المساواة؟ لا سمح الله. يقول ليون في رسالته ذاتها: "أظن أن البلد الذي ذكرناه في محادثتنا الأخيرة (أي الإمارات العربية المتحدة) لن يكون راغبا في دعم مثل هذه الإمكانية". وهذا كل ما يهم في نظره، ليس الولايات المتحدة ولا الاتحاد الأوروبي ولا حتى الأمم المتحدة. وهنا تكمن المشكلة. ولا يعني ذلك أن الأمم المتحدة لم تكن بلا مشاكل هي نفسها. في رسالة إيميل مسربة أخرى، يعرب دبلوماسي تابع لدولة الإمارات العربية المتحدة عن قلقه إزاء كيفية توفير غطاء للتستر على قيام حكومة بلاده بشحن الأسلحة إلى ليبيا، في انتهاك صريح للحظر الذي تفرضه الأمم المتحدة على توريد السلاح إلى ليبيا. 

في إيميل مؤرخ في الرابع من أغسطس خاطب به لانا نسيبة سفيرة دولة الإمارات العربية المتحدة لدى الأمم المتحدة، قال الدبلوماسي الإمارتي أحمد القاسمي: "الحقيقة التي لا مراء فيها هي أن الإمارات العربية المتحدة انتهكت قرار مجلس الأمن الدولي الخاص بليبيا ولا تزال تنتهكه".

ولقد كتب القاسمي يقول لو أن الدبلوماسيين تقيدوا بالإجراءات المطلوبة بموجب قرار الأمم المتحدة، لأدى ذلك إلى "الكشف عن مدى تورطنا في ليبيا … ولذلك يتوجب علينا  السعي إلى توفير غطاء يقلل من الأضرار الناجمة".

وكان ليون ذاته قد قال قبل ذلك بعام في رسالة الإيميل ذاتها، إن مواجهة وجود تنظيم  الدولة الإسلامية أو الجماعات التي تنتسب إلى القاعدة في ليبيا يأتي في المرتبة الثانية من حيث الأهمية، بعد الحاجة الماسة إلى كسر التحالف بين الفصائل الإسلامية ومدينة مصراتة. 

ولكن، هل تعاظمت قوة تنظيم الدولة الإسلامية في ليبيا خلال سنة واحدة بحيث أدى ذلك إلى انقلاب جميع الحسابات؟ لا يبدو ذلك. لقد تجمع الخبراء في الشأن الليبي في مؤتمر الحوار المتوسطي الذي انعقد في روما بتنظيم من وزارة الخارجية الإيطالية والمعهد الإيطالي للدراسات السياسية الدولية محذرين ومنذرين.

وكان أحد هؤلاء أليسون بارغيتر، المحللة المختصة في شؤون شمال إفريقيا وزميلة البحث في المعهد الملكي للقوات المشتركة، التي خاطبت المؤتمرين قائلة: “كل الحديث عن أن ليبيا أصبحت ملاذا لتنظيم الدولة يتوافد عليها العراقيون والسوريون من كل حدب وصوب، هو كلام مبالغ فيه في هذه اللحظة. نعم، تنظيم الدولة الإسلامية موجود، ولكنه فعليا يتمتع بالقوة فقط في مناطق محدودة مثل سيرت ومحيطها.” وقالت بارغيتر إن ثلاثة عوامل تقيد تمدد التنظيم في ليبيا، ألا وهي: الدور الذي تؤديه القبائل، ووجود مجموعات مسلحة أخرى، والريبة الكامنة لدى الليبيين تجاه الغرباء. 

ومضت تحذر المجتمع الدولي من مغبة الخلط بين تنظيم الدولة الإسلامية والجماعات الليبية الجهادية الأخرى، التي انبرت في يوم من الأيام لقتال التنظيم، ومن هؤلاء: المجلس الشوري الثورى لبنغازي، ومجلس شورى مجاهدي درنة، والمجلس الشوري الثوري لأجدابيا. وهذه كلها أصدرت بيانات نأت فيها بأنفسها عن تنظيم الدولة. 

وقالت: "ليس بوسعنا أن نرفض كل هؤلاء الجهاديين ونضعهم في سلة واحدة مع تنظيم الدولة الإسلامية واعتبار ذلك مشكلة يمكن ببساطة التخلص منها. ربما علينا أن نقبل بأن بعض هذه العناصر لا يمكن هزيمتها عسكريا، وسواء كنا نحب ذلك أم لا، لا مفر من أن يصبحوا جزءا من الحل في ليبيا، وهم بلا شك جزء غير مريح في هذه العملية، ولكن لابد من التعامل معهم إذا ما أريد لليبيا أن تنعم بالسلام".

ولكن ليس هذا ما تقوله بريطانيا وفرنسا. فقد صرح مصدر في الحكومة البريطانية لصحيفة التليغراف بأن الوزراء "يتحركون باتجاه" خطة لإرسال الدعم العسكري بالتعاون مع الحلفاء الأوروبيين من أجل إلحاق الهزيمة بتنظيم الدولة الإسلامية في ليبيا. أما فرنسا، التي أرسلت طائرات استطلاع لتحلق فوق ليبيا، فهي الأخرى تدفع باتجاه القيام بمهمة غربية أخرى من القصف الجوي. ويوم الجمعة طالب رئيس وزراء فرنسا مانيويل فال بتوسيع الجهود الدولية لسحق جهاديي الدولة الإسلامية بحيث تشمل هذه الدولة في شمال إفريقيا. قال فال: "نحن الآن في حرب، لدينا عدو، ويتوجب علينا أن نقاتله وأن نسحقه في سوريا وفي العراق وقريبا جدا في ليبيا أيضا".

وهذه هي النتيجة التي طالما دفعت باتجاهها كل من مصر ودولة الإمارات العربية المتحدة منذ الانقلاب العسكري في مصر قبل عامين. فقد كان أول إجراء اتخذه النظام الجديد في مصر في عام 2013 هو التحذير من أن ثمة حاجة ملحة إلى تدخل خارجي في شرق ليبيا. وكان الجنرال الذي اختاره عبد الفتاح السيسي لهذه المهمة هو عميل السي آي إيه الليبي السابق الجنرال خليفة حفتر، وهو شخص مثير للنزاع والشقاق لدرجة أنه تمكن  حتى من شق البرلمان في طبرق. 
قبل أن يتسنى البدء بالقصف، تحتاج بريطانيا وفرنسا إلى تلقي دعوة للتدخل من ليبيا نفسها. ولا يمكن أن يحدث ذلك ما لم توجد حكومة وحدة وطنية شكلية. لن يكون مطلوبا من هذه الحكومة أن تجتمع، كل ما  هو مطلوب منها أن توجد كواقع افتراضي. وهنا يكمن السر في التدافع نحو إيجاد حكومة وحدة وطنية، لن يكون إجراؤها الأول هو البدء بعملية المصالحة الوطنية، ولا حتى السعي لتحقيق الأمن القومي، وإنما إعطاء الموافقة على تدخل خارجي آخر. 


تشكل هذه التدخلات دائرة مكتلمة، ابتداء من ليبيا ثم إلى مالي فإلى العراق ثم سوريا ثم العودة الآن إلى ليبيا. وكل واحد من هذه التدخلات يعطي المبرر للتدخل الذي يليه، ولا ينتهي أي منها. بدأت فرنسا تدخلها العسكري في مالي في يناير 2013 سعيا لإخماد انتفاضة قامت بها مجموعات عسكرية مختلفة في الشمال، وكان الهدف هو تحرير الشمال من احتلال الجهاديين له واستعادة السيادة المالية على كل المنطقة. حتى الآن، لم يتحقق الكثير من ذلك. انتهت عملية "سيفرال" ولاتزال عملية "بارخان" مستمرة، ولايزال الفرنسيون هناك، تماما كما أن الجهاديين لايزالون هناك. 

سوف يؤدي قصف تنظيم الدولة الإسلامية في سيرت لا محالة إلى قصف المجموعات الجهادية الأخرى في شرق البلاد، رغم أن هذه المجموعات ساهمت حتى اليوم في قطع الطريق على تمدد تنظيم الدولة في المنطقة. آن الأوان بعد خمسة أعوام أن يفيق الليبيون ويدركوا  حقيقة أنه لا الأمم المتحدة ولا المجتمع الدولي بإمكانهما أن ينهيا الصراع في ليبيا. وقد أثبتت التجربة أن الوساطة الدولية يمكن أن يعتريها الخلل والفساد، وأنها يمكن نتيجة لذلك أن تؤدي إلى تعميق الصراع وإطالته. 

(موقع ميدل إيست آي)