قضايا وآراء

الاستبداد وتضليل العقول

1300x600
وراء كل آفة أخلاقية أو عقلية أو سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية يحتل الاستبداد نصيب الأسد في صناعة الآفات وتوظيفها لخدمة مشروعه الاستئثاري التسلطي الفاسد. فالاستبداد أم الخبائث وأبوها وجدها وأصلها وفرعها.

فكما يحجب الخمر عقول السكارى و يمنعهم من التفكير؛ يستخدم الاستبداد جميع أدوات تزييف الوعي وتضليل العقول بواسطة جميع تقنيات صناعة الرأي العام والتأثير على عقول الجماهير والتلاعب بالمعلومات لإخفاء الحقائق وإبطال الحق وإحقاق الباطل.

وتسخر الأنظمة الاستبدادية ثروات الشعب في سبيل تزييف عقول أبناء الشعب وتوجيه إرادتهم ومشاعرهم في سبيل خدمة أجندة الاستبداد و محاربة دعاة الإصلاح و المنتصرين لحقوق الشعب وحرياته.

وفي هذا السبيل الشيطاني يتم تبديد المليارات لتجييش المؤسسات الإعلامية والتعليمية وتوظيف الخطاب الديني والمدني في سبيل تدجين عقول الناس وتشويه الحقائق وترويج الأباطيل.

وعندما تمكنت  الجماهير من التحرر من قبضة التوجيه الرسمي وحررت إرادتها ووعيها بواسطة وسائل الإعلام الجديد ومواقع التواصل الاجتماعي كـ"فيس بوك" و"تويتر" وغيرها، وخرجت إلى الشارع لتصارع الاستبداد في ثورات الربيع العربي بعد أن كشفت أقنعة الطغيان الخادعة و المموهة للحقائق، عندما تمكنت الجماهير من تحرير وعيها بواسطة وسائل الإعلام الشعبي، كشرت الأنظمة الاستبدادية عن مخالبها وسخرت جميع قدراتها لمحاولة إحكام قبضتها على وسائل التواصل الاجتماعي وتركيعها في بيت الطاعة الاستبدادي وشاهدنا جميعاً كيف تم استخدام هذه الوسائط في تدعيم الانقلاب على الديمقراطية في مصر وكيف جيشت الثورات المضادة آلاف الأبواق على مواقع التواصل الاجتماعي ليصدوا الناس عن طريق الحرية والإصلاح ويبغونها عوجا، يزينون لهم العبودية والخنوع والاستسلام.

وتؤكد بعض الدراسات قيام بعض الأنظمة بإغراق مواقع التواصل الاجتماعي بالمواد الإباحية والترفيهية الفارغة لتفريغ طاقات الشباب في ميادين إشباع الغرائز الحيوانية وإغراقه في عبودية الجسد ليسهل تطويعه لعبودية الأنظمة الفاسدة والمستبدة.
 
وحتى الرياضة تتحول من رياضة صحية ومتعة مقبولة إلى متاهة كبيرة تستحوذ على  الأوقات في متابعة المنافسات والدوريات المحلية والإقليمية والدولية.

وفي عصر الصورة الرقمية والهواتف الذكية يتم إغراق المستخدمين بسيل متدفق من الرسائل الدعائية والأخبار المتناقضة لصناعة الحيرة وتفريغ الاهتمامات في مسارب متعددة لا تفضي في محصلتها النهائية إلى ما يهدد بنيان الاستبداد الذي ينخر في جسد المجتمع ويقتل كل طاقاته ويوظف كل شيء في خدمة أي شيء يخدم أجندته ولا يستفيد منه المجتمع نفسه في شئ ذي بال.
 
وهكذا يحول الاستبداد كل وسائل التوجيه والترفيه والتقنيات الحديثة من نعمة إلى نقمة يسخرها في تضليل الوعي والتلاعب بالعقول وتبديد الطاقات وتوجيها نحو مسالك هدّامة في سبيل إعادة إنتاج التخلف والاستبداد ومقاومة دعوات التغيير والإصلاح  وتحرير المعرفة واستقامة الفهم والسلوك.

 ولعل أسوأ إفرازات  التدجين الاستبدادي ظهور طبقة من المحسوبين على الثقافة الليبرالية الحديثة في الوطن العربي وهم يجهدون أنفسهم في إثبات عدم أهلية الشعوب العربية للديمقراطية كردة فعل ساذجة وغبية لإخفاق تياراتهم الفكرية في الاستحقاقات الانتخابية والشعور باليأس من الوصول إلى السلطة بواسطة الديمقراطية، والشعور بإمكانية تقاسم هامش سلطوي مع الأنظمة الاستبدادية وهذه أكبر خيانة يمارسها بعض المحسوبين على النخبة المثقفة لرسالتهم الثقافية والأخلاقية تجاه وطنهم ومجتمعهم.

إن تضليل العقول وتزييف الوعي مظهر من مظاهر الإعدام المعنوي لحقيقة الإنسان المدرك الفاعل والمشارك الإيجابي في الحياة السياسية والاجتماعية، مع الإبقاء على الحياة البيولوجية لكائن شبه حي يقوم بوظائف العبودية في محاريب الاستبداد ومواخير الغرائر.

 ومن هنا، فإن مسؤولية تحرير الوعي من أقدس المسؤوليات الإنسانية وأوجب الفرائض الدينية للحفاظ على الكليات الخمس للإنسان بصورة تضمن له الحياة الآمنة و الكريمة.