اليمن

تحولات المواقف السياسية السعودية تجاه اليمن البواعث والتداعيات

إذا وصل الحوثيون للحكم سيفتحون ملفات عمرها مئة عام من الصراع مع السعودية ـ أرشيفية
بعد قتال مرير اعترفت الدولة العثمانية عام 1911م باستقلال اليمن تحت حكم الإمام يحيى حميد الدين، وبعد ذلك بنحو عشرين سنة اعترفت بريطانيا عام 1932م بالمملكة العربية السعودية تحت حكم الملك عبد العزيز بن سعود. ومنذ ذلك الحين حتى الآن شهدت العلاقات اليمنية السعودية حالات من المد والجزر، ونشبت بين الطرفين حروب وعُقدت اتفاقيات ومعاهدات، ولكنها لم تستقر بشكل طبيعي حتى الآن.

ونحن نرى أن رصد واستعراض تلك الأحداث لن يكون مجديا ما لم نسلط الضوء على الزوايا التي تتعلق بالجذور والأسباب الجوهرية لاضطراب العلاقات بين دولتين بينهما من المشتركات الشيء الكثير، حتى أنه يصعب الفصل بين شعبيهما وأرضهما المتداخلة عبر الزمن تاريخيا وقبليا وسياسيا، وهذا ما سأحاول الإشارة إلى جانب منه تحت العناوين الآتية:

جغرافية التاريخ والإنسان

ينتمي معظم سكان شبه الجزيرة العربية إلى أصل واحد انقسم إلى قبيلتي: (عدنان) التي صارت تقطن الجزء الشمالي من الجزيرة العربية، وكانت تسمى (شامات)، و(قحطان) التي كانت تقطن الجزء الجنوبي منها وتسمى (يمنات)، وتفرّع كل منها إلى فروع كثيرة؛ صارت تُعرف بالقبائل العربية، وساكَنَهم غيرُهم من بلدان وعرقيات مختلفة، وكانت عصبية الانتماء إلى القبيلة أعمق وأكثر حضورا من عصبية الانتماء إلى المكان.

ومن أجل بقاء النظام الاجتماعي، الذي يُمثل سلطة شرعية يخولها الناس لضبط إيقاع حياتهم، تطور نظام العشيرة وصارت له أعراف وقوانين وأنظمة خاصة يتم إنتاجها حسب الحاجة، وكانت تُعرف حدود العشيرة بحدود الأسر الموالية لها، ولا يُشترط فيمن يقيم في هذه العشيرة أو تلك إلا الالتزام بالأعراف السائدة (عامة كانت أم خاصة). وكان العرف بالنسبة للموارد وخيرات الأرض جاريا بأن ما يحييه الإنسان من الأرض وما يستخرج من خيراتها فهو له، وإذا تركه صار لغيره. وما سوى ذلك فهو للناس جميعا.

كان ذلك واقع الحال في الجزيرة العربية فيما يتعلق بـالأرض والإنسان والموارد والنّظام، وتلك الأمور إلى جانب اللغة والثقافة هي التي صنعت تاريخا عربيا مشتركا، ولكنه تحول في ظل الانقسام والتنافس إلى بؤر للصراع والتظالم الذي لا ينتهي.

وكما في غيرها من البلدان العربية، تحولت مشتركات اليمن والسعودية إلى بؤر للاختلاف وأسباب للصراع، بما في ذلك الاندماج الاجتماعي والتاريخي والثقافي، على الرغم من العدد الكبير من الاتفاقيات السياسية، وما تضخه الأطراف من نِفَاق الأخوة وزيف المشاعر المتبادلة، التي يختلف واقع الحال معها أيما اختلاف.

وهذا يشير إلى أن التوتر في العلاقة بين البلدين ليس بسبب طبيعة أنظمة الحكم المختلفة (جمهوري ملكي)، ولا نتيجة لمستوى العلاقات السياسية، ولا حتى بدافع التنافس على الموارد وتعدد المصالح، ولكنه مستمر قائم لأسباب وجدانية ذات بعد عاطفي قابل للتكيّف والاستغلال والإثارة، أهمها:

أزمة الحدود والتداخل السكاني

منذ أن عرف العرب الحدود الجغرافية في بلادهم؛ تعمقت لديهم مشاعر الفُرْقة والانغلاق، وتحولوا إلى أعداء يسوم بعضهم بعضا سوء الأذى، وصاروا يتعاملون مع تلك الحدود على أنها إعلانٌ لقطع صِلات الماضي، وجعل مَنْ على جانبيها فُرقاء متشاكسين، وكأنهم من أجناس غريبة وأمم متباعدة، لأنهم لا يعدون تلك العلامات مجرد معالم لحدود السلطة والنّفوذ كما هي الحال في كثير من بلدان العالم، بل صارت عنوانا لهويات جديدة، ومصدرا لمفاخرات جوفاء.

وفي هذا السياق، نجد أن من أهم معالم التوتر الدائم بين اليمن والسعودية أن "المملكة العربية السعودية" اسم أطلق على الأراضي التي استولى عليها سلطان نجد، وشملت إلى جانب نجد والحجاز مناطق يمنية هي: عسير ونجران وجازان، وهذه المناطق مما يؤكد اليمنيون أنها جزء من نطاقهم الجغرافي، وبسببها نشبت حرب بين اليمن والسعودية عام 1932م، وانتهت بمعاهدة الطائف عام 1933م.

ولليمنيين كلام كثير حول معاهدة الطائف، خلاصته أن البريطانيين هم من فرضها للضغط على الإمام يحيى حميد الدين، وأن الإمام يحيى لم يكن في ذلك مفوضا من الشعب، ولذلك كانت مؤقتة ويجب أن تجدد بعد عشرين سنة، ولكن الفرصة لم تتح لمراجعتها بسبب الاضطرابات المتكررة في اليمن.

ومن المؤكد أن اتفاقية الطائف لم تشمل الحدود الشرقية، لذلك كانت السعودية خلال معارضتها ثورة 26 سبتمبر ودعمها للملكيين طوال سبع سنوات (1962 1969م) تتوسع في الربع الخالي، على الرغم من أن بريطانيا كانت قد رسمت حدود اليمن الجنوبي مع السعودية بما يسمى "خط الاستقلال" الذي جعل إقليميْ (شرورة والوديعة) ضمن الأراضي اليمنية، وبعد إعلان استقلال جنوب اليمن من الاستعمار البريطاني في 1972م وقعت أول حرب يمنية جنوبية مع السعودية، عندما استولت السعودية على إقليميْ (شرورة والوديعة) اليمنييْن، وفرضت واقعا جديدا على الأرض.

وعلى الرغم من كل الاتفاقيات وإجراءات الترسيم على الأرض، لا يزال اليمنيون يتحدثون عن تلك المناطق على أنها جزء لا يتجزأ من اليمن، ولا يزال السعوديون يتخوفون من أي مخاض قد يؤدي إلى فتح الملفات ومراجعة حسابات الماضي؛ لذلك عملت الدولة السعودية على فعل ما بوسعها لوضع العلامات الفاصلة بينها وبين اليمن، حتى أنها بدأت في نهاية عام 2003م ببناء جدار حاجز بين البلدين لإغلاق الحدود، واعترضت اليمن حينها، واعتبرت ذلك مخالفا لاتفاقية جدة عام 2000م، فتوقفت السعودية عن بناء الجدار في 2004م، وحولته إلى حاجز من الأسلاك الشائكة التي تفصل بين البلدين ويصعب تجاوزها.

ويرى كثير من المراقبين أن التحالف الذي تقوده السعودية ضمن ما بات يعرف بعاصفة الحزم، ما هو إلا محاولة من السعودية لتدمير القوة العسكرية التي يمتلكها اليمن؛ حتى لا يكون قادرا في أي وقت من الأوقات على التفكير في استعادة ما يرى أنها أراضيه، وأنها أخذت منه في وضع غير طبيعي. وقد وجدت في صَلَف الحوثيين وغرورهم ذريعة، خصوصا بعد أن أجهزوا على المشاعر الوطنية بسبب حروبهم الداخلية، التي يسعون من خلالها إلى فرض هيمنيهم وقمع منافسيهم. 

مشكلة المذهبية السياسية

من مسلمات التاريخ الحديث أن الدولة السعودية نشأت على أثر تحالف بين شيوخ نجد القبليين وشيوخها الدينيين، ويتحدث المؤرخون أن المملكة خاضت معظم حروبها في الجزيرة العربية على أساس ديني، فغزت العراق والبحرين واليمن والشام والحجاز وعمان، ووسعت نفوذها وبسطت سلطانها تحت راية الجهاد في سبيل التوحيد على منهج الشيخ محمد بن عبد الوهاب، حتى تم الإعلان عنها قبل مئة عام دولة تتبنى ما يعرف بالفكر الوهابي.

وبما أن (السعودية) لم تكن تهيمن على جغرافيا الجزيرة العربية تحت هذا العنوان، وأسرة آل سعود عرفت تاريخيا بأنها مشيخة لمنطقة (الدرعية) الواقعة شمال شرق الرياض، كان لابد لها من شعار ديني تتمدد في ظله وتعبر به حدود العشائر وتتجاوز به تقاليد وأعراف المجتمعات، ولابد من أن تظل على ارتباط وثيق بالخلفية الدينية التي نشأت في ظلها لتحافظ على كيانها.

ويرى كثير من المراقبين أن المملكة سعت ولا تزال تسعى للهيمنة على الدول المجاورة من خلال التمدد المذهبي حيث كثفت أنشطها الدعوية في سائر دول الخليج، حتى صار المذهب الرسمي لبعصها، غير أن دولة الإمارات العربية المتحدة قررت حماية نفسها بإعلان المذهب المالكي مذهبا رسميا للدولة، واتخذت إجراءات صارمة ضد تسييس الدين واللعب به على عواطف الناس باسم الله. أما عُمان فقد أغلقت الباب أمام دعاة الوهابية، وتمسكت بمذهبها التاريخي المعروف (الإباضية). 

وفي اليمن حرصت المملكة على تمدُّد الوهابية قدر الإمكان، خاصة في جغرافية المذهب الزيدي، وضغطت على النظام الرسمي لتقديم التسهيلات والمساندة لحركة الدعاة الذين تم إعدادهم وتهيئتهم في المملكة، ما ولد مشاعر الرفض والريبة لدى مختلف القوى اليمنية المناوئة للمشروع السعودي، سواء كانت قوى دينية ذات خلفية مذهبية زيدية أو شافعية أو صوفية، أو قوى سياسية يسارية ترى أن الفكر الوهابي ونظام الحكم في المملكة السعودية يمثلان الرجعية والتخلف اللذين تكافح للخلاص منهما.

ولم يكن الدعم الخارجي والتسهيل الرسمي الداخلي وحدهما وراء ما تحقق للوهابية مِن انتشار؛ فثمة عوامل أخرى على قدر كبير مِن الأهمية، منها ما يعود إلى حاجة النظام السياسي اليمني، الذي يجد في الموقف التقليدي للوهابية مِن الحاكم بغيته، خصوصا مقابل النظرية السياسية التقليدية عند الهادوية الزيدية، التي تجرّد الحاكم من غير أبناء علي بن أبي طالب مِن أحقية اعتلاء سدة الحكم وتولّي السلطة.

وعلى مدى العقود الماضية كان الساسة السعوديون يحرصون على أن تكون أي سلطة في اليمن موالية لهم، وظلوا يرقبون أي تحول في الشأن اليمني، ويسعون للتأثير فيه حتى لا يشب عن الطوق، ويتجاوز الوضع الذي يجعله يراجع ملفات الماضي، ويتفلت من دائرة التأثير التي وضع فيها. 

واليوم، وبعد أن اجتاح الحوثيون معظم المحافظات اليمنية الشمالية، بما فيها العاصمة صنعاء في أيلول/ سبتمبر 2014م، وأعلنوا استيلاءهم على السلطة في شباط/ فبراير 2015م، وهم مصنفون بالنسبة للسعودية خصوما تاريخيين ومذهبيين، وكذلك السعودية بالنسبة لهم، وبمجرد عودتهم إلى الحكم أو حتى تأثيرهم في مسارات سياسة الدولة سيكون لهم أثر كبير في فتح ملفات الصراع إلى ما قبل مئة سنة، وتحت عنوانيْ الأرض والمذهب، لاسيما أن نشطاء يمنيين بادروا بتأسيس منظمات تدعو إلى استعادة الأراضي اليمنية، وأخذوا في نشر خرائط لليمن تضم (نجران – عسير - جازان - شرورة). 

ومما تقدم نستخلص أن الخلاف والجدل القائم بين اليمن والسعودية سيظل قائما، وقد يتخذ أشكالا مختلفة ليست في الحسبان، ما لم يكن هنالك تحول جذري في طبيعة العلاقات السياسية وواقع الأنظمة في المنطقة برمتها، أو تتحول الجزيرة العربية إلى اتحاد فيدرالي أو كونفدرالي، بعد أن يعترف الجميع بحق الأقاليم التاريخية ذات الخصوصية الاجتماعية والجغرافية والثقافية بإدارة شأنها الداخلي وفق مصالحها وإمكاناتها.