عدت من مؤتمر أدبي في النرويج عقد بمناسبة منح جائزة هولبرغ للكاتبة والقاصة البريطانية مارينا وارنر. ولما كانت الفائزة مهتمة بدراسة الأساطير والقصص الخيالية في التراث الشعبي، فقد اجتمع في المؤتمر كتاب وشعراء ونقاد من شتى أنحاء العالم.
فمنهم من قدم دراسة عن أشكال تعريق الرخام في المساجد والكنائس، حيث يختار البناؤون قطعاً منها يشبه تعريقُها البشر والحيوان والنبات، ليلتفوا بذلك على تحريم التصوير، وهو تحريم شارك المسلمين فيه المسيحيون في مراحل عدة من تاريخهم. ومنهم من قدَّم دراسة في استخدام الشعراء الإيرلنديين للأساطير الكَلْتِيَّة في مقاومة التسلط الانجليزي عليهم، والكلتيون هم سكان البلاد قبل الغزو الروماني ثم الأنجلوساكسوني ثم النورماني. ومنهم من قدم دراسة عن صورة الأندلس في شعر محمود درويش.
باختصار كان أكثر الحاضرين، منا وإن كانوا أوروبيين وأمريكيين. أعني أنهم كانوا ممن ينكرون ظلم الناس للناس، وقهر الأقوام للأقوام، ومن الطبيعي أن يكون أكثرهم من مؤيدي الحق الفلسطيني وممن يدينون
إسرائيل والتسلط الأمريكي والاستبداد المحلي.
إلا أنني كنت ألمس في نقاشي معهم عن الحال في الشرق الأوسط قلقاً بالغاً، فهم يجدون أنفسهم، في بلادنا، بين المطرقة والسندان، مطرقة الامبريالية والرأسمالية والعنصرية والصهيونية التي يعادونها، وسندان بعض الحركات الدينية التي تعلن بلا تردد أنها تريد غزوهم في بلادهم وتهددهم بالويل والثبور وعظائم الأمور.
إن هؤلاء الأساتذة والباحثين ينتمون في أغلبهم إلى الطبقة الوسطى في
أوروبا وأمريكا الشمالية، وهم من أعراق وديانات متعددة، وهم يرون في التسلط الأمريكي على العالم وانفلات قوى الرأسمالية تهديداً لهم ولحقوقهم الاجتماعية والاقتصادية التي اكتسبوها عبر سنين من النضال السياسي في القرن الماضي، ويرون أن احتلال الأمريكيين للعراق مثلا، جزء من تسلط منظومة شركات النفط والسلاح والمرتزقة الأمريكية على العالم، وأن أصحاب هذه المصالح ونظراؤهم في أوروبا لو حكموا أو دانت لهم البلاد سيهددون استاذ الجامعة والباحث، كما العمال والمزارعين وأصحاب المعاشات، في أرزاقهم وحقوقهم المدنية، فيفقرونهم ويتجسسون عليهم ويزجون بهم في حروب تضرهم وتنفع من يستغلهم.
كما يرون في الصهيونية نموذجاً لنظام سياسي وقانوني عنصري يفرق بين الناس على أساس دينهم فيعطي اليهود حقوقاً يحرم غيرهم منها، ويرون في بقاء هذا النموذج تهديداً بانتشاره، ويرون في انتشاره تهديداً، مرة أخرى، لما اكتسبوه من حقوق في المساواة بين الناس على اختلاف عقائدهم، وهم على أتم الدراية بما دفعته مجتمعاتهم من دم وما خاضته من حروب جراء التعصب الديني أو العرقي بدءا من حرب السنين للثلاثين في القرن السابع عشر وحتى الحرب العالمية الثانية.
والمناضلون السياسيون في تلك البلاد كانوا عادة لا يترددون في دعم الحركات التي تقاوم الامبريالية والاستعمار في بلادنا، ويرون فيها حليفا طبيعياً لهم.
إلا أن الأمر الآن صار أكثر تعقيداً، فحركات التحرر في بلادنا، وأكثرها عددا وحجما وفاعلية إسلامي، لا تبدو وكأنها تمد جسوراً للتواصل مع أصحاب القضايا العادلة في العالم. وإذا استثنينا الحركات الإسلامية التي تقاوم الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين ولبنان، فإن معظم الحركات الإسلامية في بلادنا تنقسم قسمين، قسم يبالغ في اللين فلا يجد غضاضة في قبول النظام الرأسمالي العالمي، بل ولا يجد غضاضة في إبرام الصفقات مع الولايات المتحدة الأمريكية، ولا في التحالف معها عسكريا، وقد كان هناك حلف بينهما، أي بين هذه الحركات الإسلامية اللينة، والولايات المتحدة الأمريكية إبان الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفييتي، ثم هناك حلف شبيه بينهما ضد روسيا وإيران اليوم. وقسم آخر يبالغ في التشدد فيدعو إلى غزو روما بدلا من الدعوة لتحرير القدس، ولا يجد غضاضة في قتل المدنيين واستعباد غير المسلمين وبيعهم في أسواق العبيد.
إن علينا أن ندرك أن محاولتنا لتحرير أنفسنا هي بالضرورة محاولة لتحرير العالم. لأن بلادنا تقع في أوسط الأرض وأغناها، وإن من يغلب على بلادنا يغلب على العالم، ومن تخرج بلادنا عن يده يخرج عن يده العالم.
وإن تحررنا من حكامنا المستبدين الذي سلطهم علينا الاستعمار، وتحررنا من الحدود التي فرضها علينا الاستعمار بعد الحرب العالمية الأولى وقبلها، وتحررنا من إسرائيل التي جلبها الاستعمار جلبا حكومة وسلاحاً وشعباً ورماها علينا ورمانا بها، يقتضي بالضرورة أن نهزم القوى الامبريالية الكبرى، وبالتالي أن يتغير حكام العالم الفعليون.
إن سقوط مبارك عن عرش
مصر، لو كان تم، ولم يأت بدلاً منه مبارك آخر أسوأ منه، كان يعني بالضرورة، على المدى المتوسط والطويل، سقوط إسرائيل عن عرش المنطقة، وسقوط سكان البيت الأبيض عن عرش العالم.
فإذا كنا نريد أن نخرج العالم من سيطرة حكامه الحاليين فإن علينا أن نقترح عليه اقتراحا أفضل مما هو فيه. علينا أن نقول للصيني والهندي والإفريقي والأمريكي اللاتيني، إن ثورتنا ستنهي حكم الإمبريالية والاستعمار لتعرض عليك عالما أعدل وأرحم وأجمل وأحق، فإن لم نفعل، فإننا نقاتل العالم ظالمين بدلا من ان نقاتل الظالمين عنه.
وإن في ثقافتنا العربية والإسلامية لسعة تسمح بانتاج نماذج في التنظيم البشري؛ هي أكمل وأفضل من النماذج التي فرضتها الرأسمالية والامبريالية على العالم. وقد كتبنا من قبل إن الثورات العربية، سلميها ومسلحها، يطرح نموذجاً للحكم تحل فيه السردية محل الهيكل، والقناعة محل الطاعة، والتطوع محل التجنيد، والاعتقاد محل القانون، والأخلاق محل الدستور، والارتجال المتناسق من الأطراف محل التخطيط الموحد من المركز، وأن لهذا كله جذورا في تراثنا، حيث الأمة عندنا مجموعة من الناس يتبعون إماماً، سواء كان الإمام إنساناً أو كتاباً أو فكرة مثالية تتحكم في تصرفهم السياسي من باب اقتناعهم بها لا خوفهم من مؤسسة قاهرة تجبرهم عليها.
وأن هذه الأمة التي تحكمها فكرة مجردة مقنعة هي نقيض الدولة الحديثة ذات العساكر والأشراط التي فرضها علينا الاستعمار وقسمنا بها وعزل الأخ عن أخيه داخل حدودها.
أقول إن لثوراتنا محتوى نظريا من الممكن أن يكون مقنعا للعالم، وأكثر تطوراً مما يعرضه ويفرضه عليه حكامه الرأسماليون اليوم، إلا أن الحركات السياسية والمقاتلة الإسلامية المعارضة في بلادنا تهمل هذه الإمكانية في التراث، وتختار عوضاً عنه أسواق النخاسة وقطع الرؤوس من جهة، أو التأكيد على الرأسمالية والجنوح للسلم من جهة أخرى.
إننا انتهينا إلى حال يوضع السيف فيها على عنق المتصوف والشيعي والمسيحي العربي ويلوح به في وجه المدني الإيطالي أو الألماني الذي ليس له في الحرب ناقة ولا جمل، بينما تمتد يد السلم ويذكر صلح الحديبية صباح مساء عند الكلام عن مواجهة إسرائيل.
أما عن الحركات غير الإسلامية في نسيج الثورات العربية، فإنها أيضا تنقسم قسمين، قسم لم يجد غضاضة في التحالف مع الفاشيات العسكرية والطغاة المستبدين خوفا من الإسلاميين أو نكاية بهم، خائناً بذلك كل القيم التي كان يدعو إليها من حقوق إنسان وديمقراطية وعدالة، وقسم آخر اكتفى بنقل النظريات الاشتراكية أو الليبرالية الأوروبية كما هي، ودعوة الناس إلى تأسيس هويتهم السياسية على انتمائهم الطبقي في حالة الاشتراكيين أو على الدولة القُطرية التي رسم حدودها الاستعمار ودستورها وقانونها في حالة الليبراليين، ولم يفلح أي من هؤلاء حتى اليوم في ربط ذلك بثقافة الناس المحلية إلا ربطا مرتجلاً أو فجاً غير ناجع، وبالتالي ظل أقل جماهيرية من الإسلاميين.
أقول إن شعوبنا سبقتنا فقدمت لنا نظرية مطبقة على الأرض حين احتشد الملايين وحكموا أنفسهم بلا شرطة ولا جيش أشهراً، وليس علينا إلا أن نقرأ ما فعلوا ونستخلص منه نظرية سياسية تكون هي نواة طرحنا واقتراحنا على العالم، وهي ابنة ثقافتنا العربية الإسلامية، وهي أمتنا بالمعنيين، بمعنى أن الأمة طبقت النظرية على الأرض حين حكمت نفسها بنفسها مُحلة الفكرة محل الدولة، وبمعنى أن الأمة هي وهي أمتنا بمعنى أن الأمة هي النظرية، الناس المحتشدون في الشوارع هم النموذج المثالي الذي نريد أن نعممه ونتبعه، والمثال في اللغة هو الإمام، نؤمه ونتبعه ونسعى له سعياً وندعو الناس إليه.
أيها المثقفون والمشايخ، إسلاميين كنتم أو غير إسلاميين، النص كان مكتوبا في شوارعكم فاقرأوه، واعلموا أنكم لن تقنعوا الناس أن يزيلوا ظلم غيركم لتظلموهم أنتم، فلا أسواق النخاسة تروقهم وإن أقمتموها تحت شعار التراث، ولا معتقلات العسكر تروقهم وإن بنيتموها تحت شعار الحداثة.
وأخيرا، فإن الاستبداد والاستعمار فكرتان قديمتان، وحين كانتا فكرتين منتشرتين، لم يكن البشر بهذه الأعداد، ولا كانوا قادرين على أن يتصل بعضهم ببعض بهذه السهولة. إنكم يا أصحاب الطغاة والطغيان بقايا زمن مضى، ونحن، في الحياة أو بعد الموت، أصحاب هذا الزمان والزمان الآتي.