قضايا وآراء

فلسطين في الوعي العالمي.. وإدارة الصراع

1300x600
ليس مبالغةً الزعمُ بأنّ الهجمة على الوعي العالمي بخصوص فلسطين، سبقت الهجمة المباشرة على فلسطين ذاتها. فالحملة الصهيونية استبقتها ذرائع منسوجة بعناية، أمّا طلائع المستعمرين فبحثت عن اللبن والعسل تحت لافتات دعائية صيغت مضامينها في حواضر أوروبية. 

يكتسب التنافس على الوعي اهتماماً متزايداً في صراعات الحاضر، وتبقى قضية فلسطين معبِّراً قوياً عن هذا المنحى. ثمة معركة متواصلة على وعي الجماهير، في الغرب وغيره من الأقاليم، بما يؤكد أنّ التشبّث بالحقوق والصمود تحت الاحتلال والمقاومة المتواصلة لانتزاع الحرية، مما يتطلّب استصحاب مخاطبة العالم، والسعي لكسب العقول والقلوب.

لا يعني ذلك أن تتخلّى حركات التحرّر عن خوض النضال التقليدي المشروع، فتنزوي إلى الفضاء الافتراضي، أو أن تُلقي بالأعباء جميعاً على عاتق الحراك المدني حول العالم. بل ما يقتضيه ذلك هو سعي إدارة الصراع لتثمير المكتسبات الجماهيرية والمدنية والإعلامية والقانونية والسياسية وغيرها حول العالم، والبناء عليها وتوظيفها في اتجاهات ملموسة الأثر، دون أن تُخلي مواقع الصراع كافة بذريعة التفرغ لمهمة "إقناع الرأي العام العالمي".

لا يصحّ إهمال الشعوب وضرورة مخاطبتها وكسبها إلى صفّ الحقوق والعدالة، لكنّ ذلك يبقى في الواقع أحد أدوات الصراع، ولا يصلح التعويل عليه بشكل منفرد.

إنّ التجربة التي تطوّرت في مربّع الاحتلال تقوم على السعي الحثيث لخوض معركة الإعلام والتواصل بعناية فائقة، لكن دون إخلاء مواقع الصراع الأخرى، ومنها القصف والسحق على الأرض. فالتعويل على كسب الجماهير حول العالم يكتسب قيمته الأهمّ بالاتساق مع مجمل إدارة الصراع.

أخطأ بعضهم في الساحة الفلسطينية عندما حسب أنّ كسب العالم يكون بالتملّص من "الثورة". باشر رموز هذا النهج خلال أشواط التفاوض الأولى التنظير لما سمّوه "خطاباً فلسطينياً جديداً". وقد تمّ في سبيل ذلك تمزيق لافتات كبرى، وإلغاء الميثاق الوطني الفلسطيني، والتخلي عن رقاع في الجغرافيا وفصول في التاريخ. آل هذا النهج إلى خسائر مركّبة على الأرض، علاوة على ما انتهى إليه من مخاطبة المانحين أساساً؛ انشغالاً منه بتأمين قوت السلطة التي نهضت بالاعتماد على أعطيات خارجية.

من المهم حشد الشعوب في كفّة الحق الفلسطيني، ولكنّ ذلك لا يعني تعطيل النضال على الأرض لإتقان مشهد الضحية التي تستحقّ العطف. قد تكون الصورة المُثلى التي تحرِّك الجماهير حول العالم خالية من المقاومين، ومجرّدة من أدوات الميدان جميعاً فوق الأرض وتحتها. لكنّ الجماهير المتفاعلة لا تملك بهتافاتها ولافتاتها تعويض الفراغ أو تأمين الحماية، حتى في مواجهة جرافة إسرائيلية كالتي سحقت المتضامنة الرائعة راشيل كوري.

ليس مُنتظراً من مكوِّنات الشعب الفلسطيني، كالفصائل والقوى والمؤسسات والجمعيات واللجان والتجمّعات الجماهيرية؛ أن ينخرط كلّ منها في مسارات الصراع جميعاً بالكيفية ذاتها. لكنّ الواجب يحتم توجّه مجمل الجهود صوب إنتاج محصِّلة تكاملية، بما يغطي مساحات العمل الفلسطيني من جانب، وينوِّع من أدوات الفعل والتأثير، ويحقق ميزة التخصّص عبر الحقول ومقتضيات الانتشار حول العالم أيضاً. 

إنّ منطق إدارة الصراع يقتضي تسخير مضامين الإعلام والتواصل والتحركات الجماهيرية، في خدمة القضية بكليّاتها إجمالاً وبتفريعاتها وروافدها تفصيلاً.

لا يصحّ في هذا المسعى عزل المسارات المتضافرة بعضها عن بعض، أو افتعال التناقض في ما بينها. فالمقاومة الشعبية في القرى التي تلامس التوسّع الاحتلالي لا تتناقض مع تطوير قدرات الشعب في الاستعصاء على المحتل في زمن العدوان على مناطق أخرى. وتطوير آليّات المقاطعة ونزع الاستثمارات وفرض العقوبات هو خيار بالغ الأهمية في الضغط على مصالح الاحتلال والعمل على عزله عن العالم، لكنّ الاكتفاء بهذا الخيار وحده لا يُنجز تحرّراً ولا يُحرز استقلالاً.

ولا يمكن استثناء التغريد في الشبكات والتواصل في الإعلام الاجتماعي من أدوات الصراع، لكنّ الشعوب لا تتحرّر بمنازلات العالم الافتراضي وحدها، بل باستراتيجيات تحرّر متكاملة على مسارات متعددة، تستجمع كفاح الشعوب على الأرض مع تفاعلات الجماهير، والضغوط المدنية، والجهود القانونية، والتوعية الإعلامية، والمساعي السياسية، والتحركات في المسارات كافّة.