بكثير من الاهتمام، تتابع جماعات
الإخوان المسلمين في المنطقة، التغيير الأخير الذي حصل في المملكة العربية
السعودية، وهي ترصد كل شاردة وواردة تصدر عن الرياض علّها تجد فيها مؤشراً على تغيير محتمل في سياسة الرياض حيال الجماعة، واستتباعاً حول خريطة المواقف والتحالفات المتحركة في المنطقة برمتها ... وبعد أن فرغت هذه الجماعات من تأمل وتفحص صور ووجوه المشاركين في مراسم التشييع والتعزية والتهنئة، تنتقل اليوم إلى قراءات معمقة في الإشارات والإيماءات التي تتناثر هنا وهناك.
والأمر لم يعقد مقتصراً على كادر الجماعة وقياداتها، فثمة كتاب وخبراء ومحللون، أخذوا يفعلون الشيء ذاته، وهم اليوم في حمأة التنبؤات والتكهنات حول الوجهة التي ستسلكها المملكة في المرحلة القادمة والعهد الجديد، وكيف سينعكس التغيير الداخلي على سياساتها الخارجية، على اعتبار أن السياسة الخارجية للدول هي امتداد لسياساتها الداخلية، وهي وإن كانت مبنية على المصالح الثابتة والمؤسسات القائمة في هذه الدول، إلا أنها تتأثر حكماً بتغيير الأشخاص والمؤسسات، وهنا نستحضر السؤال القديم المتجدد حول “دور الفرد في التاريخ”.
الاعتقاد الرائج في غمرة ما قرأنا وسمعنا، أن تغييراً سيطرأ على مقاربة المملكة لملف جماعة الإخوان، وأن مزيدا من الليونة في التعامل مع الجماعة قد يطرأ في المرحلة الأولى، تليه بعض
التغييرات في مراحل لاحقة ... يستند هذا التقدير إلى أمرين اثنين: الأول، أن المسؤولين عن السياسات المتشددة التي انتهجتها المملكة حيال الإخوان، قد شملتهم التغييرات الواسعة في مواقع ومؤسسات صنع القرار والقائمين عليها... والثاني، أن للمؤسسة الدينية النافذة في المملكة “حظوة” أكبر لدى العهد الجديد مما كان لها في العهد السابق، وأن الأمر يحتمل إضفاء مزيدٍ من الليونة على مواقف المملكة من أكبر وأقدم حركة إسلامية منظمة في العالمين العربي والإسلامي.
كما أن هذا التحليل يستند بدوره إلى مؤشرات أخرى، لا تقل أهمية، منها أن علاقات المملكة ببعض الدول الأكثر كراهية للإخوان واستعداءً لهم، تشهد بالفعل مرحلة مراجعة وإعادة تقويم كما يقول هؤلاء، ولا نريد هنا أن نصل إلى الاستنتاجات المتطيّرة التي تتحدث عن تأزم أو فتور، قد يمهدان لقطيعة، فمثل هذا الاستخلاص يصدر ربما عن تفكير “رغائبي” غير مسنود بحقائق المصالح والتحالفات و“الطابع المتحفظ والحذر” الذي ميّز السياسة الخارجية السعودية عموماً.
يتوقع مراقبون وإ“خوان” على سبيل المثال، أن تشهد علاقات المملكة بالإمارات، بعض التغيير وأن تخضع لإعادة نظر ... يستندون في ذلك إلى مؤشر غياب حكام الإمارات الكبار عن مراسيم التشييع والتعزية من جهة، ويشيرون إلى “تفضيلات” إماراتية وعلاقات خاصة ومتميزة مع كثير من “الخارجين” من موقعهم بموجب التغييرات الأخيرة (المراسيم الستة الأولى التي صدرت قبل الدفن والبيعة، والمراسيم الثلاثين التالية التي صدرت في بعد أسبوع من وفاة الملك عبد الله) ... والإمارات كما هو معلوم، تتصدر الجبهة العربية المناهضة للإخوان، وهي تطاردهم لا على أرضها فحسب، بل وفي ليبيا ومصر وكل مكان تقريباً.
التغيير الثاني المنتظر، ويتعلق بعلاقات السعودية مع مصر، حيث “يبشر” هؤلاء بقرب انتهاء شهر العسل بين البلدين، من دون أن تصل الأمور إلى حافة القطيعة أو التوتر ... أما الأسباب التي قد تؤدي إلى ذلك، فتتلخص في سببين اثنين: الأول، ويتعلق بانتفاء “القاسم المشترك الأعظم” الذي جمع النظامين سابقاً: العداء للإخوان وأولوية محاربة التطرف والإرهاب ... والثاني، ويتصل بانهيار أسعار النفط، وتراجع قدرة المملكة على المضي في ضخ المساعدات الاقتصادية والمالية السخية للاقتصاد المصري المريض، الذي يبدو كـ “قربة مثقوبة”، لا تحفظ ولا تحتفظ بما يُصب فيها من ماء أو سوائل.
في المقابل، تُحشد أدلة إضافية للدلالة على تنامي احتمال من هذا النوع ... قطر على سبيل المثال، عاودت حملاتها على نظام المشير عبد الفتاح السياسي كما كان عليه الحال من قبل، وبعد أن تم وقف “قناة الجزيرة مباشر/ مصر” زمن الملك الراحل، تحولت القناة العامة إلى “جزيرة مباشر/ مصر”، وبلغة لا تقل “قسوة” عما كان عليه الحال من قبل ... أما الشيخ القرضاوي فقد عاود إطلاق الفتاوى التحريضية ضد النظام، بما فيها التحريض على “المقاومة المسلحة” ودعوة الجيش والأجهزة الأمنية المصرية للتمرد، ودائماً من مقر إقامته في الدوحة، ودون خشية على ما يبدو من ردات فعل سعودية على “نقض” اتفاق المصالحة الذي توصل إليه الجانبان بوساطة ملكية سعودية.
كما أن حضور رجب طيب أردوغان، ومنذ الساعات الأولى لإعلان خبر رحيل الملك، يُفَسر على إنه إيذان بقرب “تطبيع” العلاقات بين الرياض وأنقرة، في ضوء اشتداد حاجة المملكة للحليف التركي في مواجهة التمدد الإيراني الذي بلغ ذروته في “انتفاضة” الحوثيين على المبادرة الخليجية (السعودية أساسا)، ونجاحهم في السيطرة على صنعاء وتنحي الرئيس وحكومته دفعة واحدة، وأخيراً إنذار الأيام الثلاثة الأخيرة الذي أصدرته الجماعة قبل أن تبادر إلى “قطع رأس” النظام السياسي اليمني، على طريقة وشاكلة إنذارات داعش الأخيرة، التي تمهد لقطع الرؤوس على الهواء مباشرة.
إن صحت هذه القراءات والنبوءات، فإن من المحتمل أن تشهد العلاقة بين المملكة وجماعات الإخوان نوعاً من “التهدئة”، وأن يصار إلى تحريك بعض الأولويات والتحالفات ... لكن الرافضين لهذه القراءات والتحليلات، يقولون في المقابل، إن مواقف الدول ومصالحها، لا تتغير بتغير الأشخاص، بالذات في الحالة السعودية، وأن السعودية كأي قاطرة كبيرة، تحتاج لمساحة واسعة جداً لكي تحدث استدارتها، وأن قطع هذه المسافة، يحتاج إلى زمن طويل قد يطول وقد يقصر، تبعاً للظروف وضغط الأولويات وطبيعة الملف ذاته.
من السابق لأوانه التكهن بالوجهة التي ستسلكها السياسة الخارجية السعودية في ظل العهد الجديد، لكن حجم التغييرات الداخلية واتساع نطاقها، وطبيعة المناقلات الأخيرة ومستواها، يوحي بأن تغييراً سيحدث، لتظل الأسئلة المطروحة: متى وكيف وفي أية موضوعات وبأي اتجاه؟
(نقلا عن صحيفة الدستور الأردنية)