كل المرّات التي عايشنا فيها تغييراً على رأس الحكم في المملكة العربية
السعودية، لم تكن مجتمعات عربية، بعيدة أو قريبة، تبدي مثل هذا الاهتمام الخاص والذاتي، كما فعلت هذه المرّة. ففي المغرب، حيث كنت، سمعت أشخاصاً عاديين يتبادلون التعازي، وهناك من بادر عفوياً الى تعزيتي فور تبيّنه أنني عربي وبغضّ النظر عن الجنسية. وعلى الفضائيات السعودية وغيرها، حتى لو كان النقاش على التطوّرات في اليمن أو ليبيا أو مصر، لوحظ أن العديد من المشاركين كان يستهل كلامه بـ «تعزية السعوديين والعرب». ولعل هذه الظاهرة تعزى الى أمرين على الأقل: أولهما، ارتباط تاريخي بالسعودية وما تمثّله اسلامياً واعتياد طويل على شخصيتي الملك الراحل عبدالله بن عبد العزيز والملك الجديد سلمان بن عبد العزيز، بمساهمة متقدّمة من إعلام سعودي واسع الانتشار. والآخر، أن الأحوال العربية القاتمة والمضطربة، بل الخطيرة، جعلت الوجدان العربي ينشغل بما يعنيه هذا التغيير وما ينبغي التوقّع منه. البلد الآخر الذي يثير تفاعلاً مشابهاً في الوقت الراهن هو مصر. وقبل ذلك كان العراق.
غالباً ما تكون الفترة التي تسبق رحيل ملك وتولّي ملك آخر مشوبةً بالتحفّظ والانتظار والغموض، ولا بدّ أن تنعكس هذه على السياسات. لكن ها هو
عهد جديد قد بدأ في السعودية. والمهم أن انتقال السلطة تمّ بهدوء، في إطار الآليات المتّبعة، مع جرعة من التجديد، ما أودى بكل التكهنات التي استقرأت الشأن السعودي بمعايير غير سعودية. ذاك أن سيناريوات كثيرة سيقت خلال الأعوام الأربعة الماضية، خصوصاً بعد وفاة وليين للعهد (الأمير سلطان بن عبد العزيز، والأمير نايف بن عبد العزيز) في غضون شهور معدودة، وكان أهمها يتعلّق بفتح الطريق أمام أبناء الجيل التالي، أحفاد الملك المؤسس عبد العزيز. كان مجرد التفكير في هذه النقلة يثير القلق والمخاوف، من دون أن تكون هناك معطيات قانونية أو سوابق يقاس عليها، وكان السؤال الذي يتردّد باستمرار «هل يمكن أن يمهّد الملك السبيل لخلافته إلا لأمير من أبنائه»؟ في النهاية، جاء الحل لهذه المعضلة واضحاً وبسيطاً في آن بتعيين الأمير محمد بن نايف ولياً لولي العهد، فإذا بهذه الصيغة تؤسس لتقليد يوضح معالم خط الحكم وتسلسله، ومن غير المستبعد أن تشهد هذه الصيغة تطويراً باتجاه مأسستها لتصبح مسألة الخلافة نقطة قوة للنظام.
في سياق أحداث كارثية متلاحقة عربياً بات استقرار السعودية، وكذلك استقرار مصر، مهماً لكل عربي أكثر من أي وقت مضى، حتى لو لم يكن معنياً به مباشرةً. فمن المصيري بمكان أن تكون الدول العربية الرئيسية قادرة على تشكيل ضمانٍ ما لمنطقة منشغلة حالياً بأوضاعها الداخلية، فيما تدور حولها أوسع المناورات الإقليمية والدولية لتقاسمها مناطق نفوذ. ولذلك نُظر الى المساندة السعودية القوية للتغيير في مصر، صيف 2013، على أنها دفعٌ في اتجاه استعادة وضع استراتيجي عربي يعاني انعدام الوزن والتلاشي. ولا يزال هذا الاتجاه يتأكد، بعدما رفد بخطوات كبيرة على مستويين: الأول تتوّج بالمصالحة الخليجية التي أزاحت أجواء القلق وبلورت حداً أدنى من الانسجام بين توجّهات الدول الست، لأن المصلحة الخليجية تبقى واحدة، والأحداث تبرهن أن المصلحة العربية العامة تعزز أي مصلحة خليجية. والثاني تمثّل في اتّباع سياسة حازمة ازاء التيارات الإسلامية المتسيّسة التي بات ملموساً أنها في أفضل الأحوال لا تحسن ادارة الدولة ولا تؤمن بالمؤسسات، وفي أسوئها يمكن أن تشكّل ثغرات لقوى خارجية طامحة لاختراق الأوطان.
ولكن، رغم هذه الخطوات، لا يزال الهدف (الاستراتيجي) بعيداً، ولا بد من مواصلة الجهود لتجاوز العقبات التي طرأت من خلال استشراء الإرهاب واستشراسه، إضافة إلى التحديات الأخرى التي باتت تتطلّب من العرب دوراً أو حضوراً أو مساهمة أو ضماناً لإيجاد حلول للمآسي المتفاقمة في سورية واليمن وليبيا ولبنان، فضلاً عن المحنة المزمنة التي يعيشها شعب فلسطين. ومع الحاجة الى الحلفاء الدوليين فإن وجود هؤلاء لا يمنع بناء تعاون عربي ولا ينفي ضرورته ولا يقدم بديلاً منه. ولعل الحرب الحالية على الإرهاب تظهر أن الاستراتيجية التي يتّبعها «التحالف الدولي» يمكن أن تخدم كثيراً من الأطراف من دون أن تحقّق الأهداف التي ينشدها العرب، علماً أنهم «شركاء» في التحالف وأن الحرب تدور على أرضهم.
وإذ لفتت زيارة الرئيس الأميركي للرياض بهدف التعزية، فإن الأوضاع الإقليمية حوّلتها إلى قمة أولى واجتماع عمل مبكر بين قيادتين ترتبط دولتاهما بالتزامات وشراكات قديمة ومتجددة. وفيما أكد الملك سلمان عشية تلقّيه البيعة أن التوجّهات الرئيسية للسياسة السعودية مستمرة باستمرارية الدولة، وحرص باراك
أوباما على التنويه بـ «الشراكة المتينة بين بلدينا»، إلا أن الثقة بين الجانبين اختلّت في الأعوام الأخيرة بفعل مقاربات غير متطابقة للعديد من الملفات، بدءاً من المفاهيم التي تبنّتها واشنطن للإرهاب وسبل مواجهته وتبيّنت أخطاؤها خصوصاً في العراق الذي سلّمته أميركا تسليم اليد إلى إيران، وصولاً الى «ديبلوماسية السلبية» التي انتهجها اوباما في التعامل مع الأزمة السورية وأدّت في نهاية المطاف الى الوضع الذي أنشأه تنظيم «داعش» في سورية والعراق.
خلال عهد الرئيس الأميركي السابق جورج بوش كانت دول الاعتدال العربي تشكو من أن سياسات واشنطن تتقلّب على نحو يخدم محور المتطرّفين فيما يربك «الشركاء» المعتدلين ويحرجهم بل يضرّ بدورهم ومصالحهم. وفي عهد اوباما لم يتكرّس هذا الواقع فحسب بل زاد تجذّراً وأيذاءً حتى صار التناغم «الضمني» مع الجهات المتطرّفة (تحديداً اسرائيل وإيران) وكأنه يحقق لأميركا - «موضوعياً» - مصالح غير مصرّح بها، غير عابئة بأن هذه المصالح باتت تتناقض جذرياً مع التزاماتها حيال الأمن والاستقرار في الخليج ولا سيما في السعودية. ولا تنظر الرياض إلى أي تقارب أميركي مع إيران على أنه بالضرورة ضدّها، لكنها مثلها مثل كل العواصم الخليجية والعربية وحتى الكثير من العواصم الأوروبية تقف عاجزةً عن فهم أي تقارب لا يكتفي بالسكوت عن التجاوزات الإيرانية في العديد من البلدان العربية فحسب بل يخطو سريعاً نحو تغطيتها وقبولها كأمر واقع، تماماً كما تفعل واشنطن مع الانتهاكات الإسرائيلية لحقوق الشعب الفلسطيني.
في العديد من الملفات (التغوّل الإسرائيلي وانفلات الوضع في العراق وانهيار اليمن والتأزم في ليبيا وعدم التدخل في سورية فضلاً عن استراتيجية محاربة الإرهاب) لم تحصد المنطقة العربية من أميركا - أوباما سوى التهاون أو الخذلان، وكان الراحل الملك عبدالله الأكثر صراحةً في التعبير عن خيبة أمله، إذ يسمع شيئاً ويرى شيئاً آخر، رغم أن السعودية كانت ولا تزال تعتبر نفسها شريكة استراتيجية للولايات المتحدة. ولو أُخذت كنموذج للتعارض اثنتين فقط من القضايا المشتعلة حالياً، اليمن والحرب على «داعش»، فإن تفاهم «الحليفين» كان أساساً لـ «التحالف الدولي» لكنهما مختلفان على المعالجة العملية لأسباب ظهور «داعش» وتوسّعه، اذ إنها ستقود حتماً الى الاصطدام بإيران. ومع أنهما أبرز ضامنَين للانتقال السياسي في اليمن إلا أنهما عاجزان حالياً عن ضبط الجموح الحوثي (- الإيراني)، ولا يبدو الموقف الأميركي واضحاً رغم أن الحدث اليمني بات ينذر بأخطار مباشرة على أمن السعودية. فهل كانت لدى أوباما حجج جديدة لإقناع الملك سلمان بأن الولايات المتحدة لا تزال شريكة للسعودية، وأنها ترفض قولاً وعملاً ممارسات إيران المزعزعة للاستقرار الإقليمي؟
(نقلا عن صحيفة الحياة اللندنية)