مقالات مختارة

احذروا خطر التصادم بين المخزن والسيبة أيها العرب!

1300x600
من خلال تشكل الخطاب السياسي العربي الجديد في بلدان ما بعد الربيع المشتبه في أمره بين الفصول الأربع ومن خلال تدهور الأوضاع الأمنية فيها ومن خلال تصلب الفرقاء المختلفين في تلك المجتمعات واحتدام الصدام وعنف الكلام، أتبين شخصيا شبح خطر قادم من كهوف الماضي السحيق يطل علينا كالمارد المرعب الخارج من قمقم التاريخ الأسود الحديث، وهو شبح عودة انقسام بعض الشعوب العربية إلى ما يسمى في المملكة المغربية بالمخزن والسيبة. 

وأفسر لمن لا يعرف هذين المصطلحين بأن عبارة المخزن تعني ثلث الشعب الذين يلتفون حول مؤسسة الدولة والإدارة الرسمية وينعمون بمزايا وعطايا القوانين التي وضعت لهم ولحمايتهم وضمان امتيازاتهم واستمرار ثرواتهم واستقرار سيطرتهم على المجتمع.

أما عبارة السيبة، فهي بالطبع تعني الثلثين من مواطني الشعب الكريم الذين شاءت أقدارهم الجائرة أن ترمي بهم خارج هذه المؤسسات الرسمية الحاكمة وأن يعيشوا على هامشها، إما في الأرياف كمزارعين غير مالكين لأراضيهم أو بناة للطرقات والجسور والأنفاق وغالبا ما يعيشون في ما يسمى مدن الصفيح والكرتون المقامة عشوائيا على تخوم المدن الكبرى وحالهم أشبه بالطبقة الهندية السفلى المسماة بالذين لا يمكن لمسهم أو الاقتراب منهم. 

أرى من حولي منذ سنوات قليلة حالة من الرضا بالدون والاستكانة لما يعتقد أنه القدر أمام تفاقم ظاهرة الانقسام بين مخزن وسيبة وهو ما ينذر باندلاع موجات غضب مشروع ورفض جماعي للظلم والقهر، وإنك يا قارئي العزيز إذا ما تأملت التحولات الكبرى في التاريخ، قديمه وحديثه، ومنذ ثورة العبد (سبارتاكوس) في روما القديمة سنة 111 قبل المسيح وثورة بحارة الباخرة (بوتمكين) في روسيا القيصرية سنة 1905 وثورة (السيبة) الفرنسيين ضد الملك لويس السادس عشر في فرنسا سنة 1789 وثورة القائد (علي بن غذاهم) في تونس ضد الدولة الملكية سنة 1864 ثم اقرأ أحداث الحروب التحريرية للأمم المنتفضة ضد الاستخراب الصليبي من الشعوب العربية والمسلمة والهندية والإفريقية والآسيوية والأمريكية اللاتينية لتدرك أن انقسام أمة من الأمم إلى ثلث منعم وثلثين مهمشين لابد أن يخلف الهزات الاجتماعية وينشر الفوضى ويشيع الفتنة قبل أن تؤدي هذه الهزات إلى استقرار أنظمة أعدل ودول أرحم ومؤسسات أقوى، ولم تشذ عن هذه القاعدة أي من التحولات السياسية والحضارية الكبرى على مر القرون.

إن ما يحدث في العراق على سبيل المثال هو من هذا الصنف بتفاصيل طفيفة مختلفة، لأن الشيعة في بلاد الرافدين شعروا أنهم ظلموا وهمشوا أثناء مرحلة حكم صدام حسين الطويلة وجاء حكم ما بعد صدام حسين ليجعل السنة في نفس الحال، فتم حل الجيش العراقي وتفكيك منظومة الظلم الأول ليحل محلها الظلم الثاني، فتمسك جزء من الشعب بمؤسسات قديمة لم يقع إصلاحها بجرأة وتشتت أجزاء أخرى في أصقاع الأرض العراقية فيما يشبه (السيبة) إلى أن ولدت من أرحامها جماعات مسلحة وعنيفة لا ندري كيف ستحل مشاكلها. وقس عليها سوريا التي لم تنعم بحكم مدني مقبول منذ انقلاب الجنرال حسني الزعيم سنة 1949 حين فتحت الأبواب مشرعة في وجه الانقلابات وتشهد ميكروفونات إذاعة دمشق على تتابع مسلسل البيان رقم واحد على السادسة صباحا وما جاء في البيانات من نفس الفواجع، حيث تم (تنفيذ حكم الشعب في الخائن فلان والجاسوس علان) إلى أن انشطر المجتمع السوري في غفلة من نخبه إلى (مخزن) و(سيبة) أعني مخزنا يلبس لبوس الطائفة وسمها كما شئت (حزب البعث العربي الاشتراكي) أو (مهد العروبة) أو (جبهة الصمود والتصدي) أو ما اتفق على تسميته بلفظة أقل مجلبة لغضب إسرائيل وحلفائها الغربيين وهي عبارة (الممانعة) وظل الشعب السوري مهمشا في مهب الرياح، آخر حلقات مآسيه غرق المئات من شباب سوريا في البحر قاطعا نحو أوروبا. 

وحين جاء الدور على ليبيا لم أفاجأ شخصيا، فقد كنت أتوقع تلك العاصفة منذ أن كنت من أهل المنافي الباريسية على مدى عقدين ومطلوبا من قبل منظمة (إنتربول) من نظام نوفمبر وكنا نلتقي المعارضين الليبيين الأحرار في مقهى على جادة الشان زيليزيه ونقدمهم لمن لا يعرفهم مازحين ساخرين بأن هؤلاء هم من سماهم العقيد بالكلاب السائبة! أي من (سيبة) سنوات الجمر والصبر، بينما لم يكن لدى ليبيا (مخزن) في عصر تغييب الدولة وشخصنة البلاد كلها وتغيير أشهر السنة وراية البلاد وتاريخها وطمس كل تراثها. سامح الله الأموات وغفر لهم وعوض للمضطهدين أمثالنا أيامهم الضائعة وفواجع أهلهم وعيالهم، أمين يا رب العالمين.

وليست بلادي تونس في مأمن من هذا الخطر، بل إن بعض المؤشرات تحث على اليقظة، منها طريقة تغطية القناة الرسمية للثلج الذي غطى قرية عين دراهم وجبالها، حيث كان التحقيق الميداني مركزا على الحركة السياحية في هذه القرية الجميلة وفرحة الوافدين من التونسيين المرفهين للتمتع بالثلج، بينما كانت تغطية نفس القناة لنفس الحدث سنة 2011 بعد الثورة مغايرة تماما وعلى النقيض، لأنها في ذلك الشتاء القارس ركزت على المواطنين حوالي القرية وفقرهم والبرد الذي نهش أطرافهم وعجز أطفالهم عن الذهاب للمدرسة أو اللعب أو الشعور بالأمن! سبحان مغير الأحوال!، فالقناة هي ذاتها والإعلامية التي قدمت الحدث هي نفسها، لكن يبدو أن أمرا ما تبدل، فجعل التلفزيون يدير الكاميرا نحو المخزن وينسى مؤقتا السيبة! وهو ما سجله عدد كبير من المدونين الشباب كجرس إنذار يدعو إلى الاعتبار ورفض الظلم وقول الحق، لأن مأساة شعوب كثيرة حدثت حين أغمضت العيون عن الحق الساطع وغطت الشمس بالغربال وأفاقت الشعوب على حقائق مدهشة غيرت العالم وهبت فيه نسمات الحرية. 

أما المخزن والسيبة فهو انقسام عالمي جائر كذلك والأمثلة عديدة لا تحصى، ضحيتها العرب والمسلمون دائما مثلما يقع في بلدان أوروبية كثيرة، حيث تضطهد جاليات السيبة العربية التي تعيش وتعمل منذ عقود ومنذ ثلاثة أجيال ويقع اليوم ظلمها على أيدي أحزاب عنصرية ويمينية متطرفة تعمل على ملاحقة العرب والمسلمين بالقوانين الجائرة والممارسات المهينة وحرمان عائلاتهم من السفر إلى دول الاتحاد الأوروبي بتشديد إجراءات الحصول على التأشيرة، بل باستحالة الحصول عليها، بينما يأتي إلى بلداننا كل مواطن أوروبي بمجرد بطاقة تعريف!.

أما المخزن الإسرائيلي الذي يريد القضاء على سيبة فلسطين فهو يتحرك في عكس اتجاه التاريخ وبدأ العالم يراجع مواقفه أمام تلك المأساة التي تشكل آخر ظاهرة استعمارية في العالم.



(نقلا عن صحيفة بوابة الشرق)