لم تنتظر ردود الفعل كثيرا - فور الإعلان عن مبادرة المصالحة بين "الدوحة" و"القاهرة" - لتعكس انطباعاتها عن الحدث الذي شكل مفارقة إقليمية حقيقية وتفكيكا لأحد أهم الخلافات. ولقد سارع الكثيرون بإطلاق أحكامهم النهائية على الحدث، ونحن كعادتنا أصبحنا نعشق النهايات السريعة والبدايات العاجلة. فمن متتالية "نهاية الإنسان" و"نهاية التاريخ" الأمريكيتين، مرورا بنهاية "عصر الحرب" وسط التفاؤل الذي ساد بعد حقبة الحرب الباردة، وصولا إلى "نهاية الإسلام السياسي" بعد موجتي "الناصرية الأولى" و"السيسية" اللاحقة، لم ينته شيء مما بُشِرَ بنهايته. وقبلها نهاية "الرأسمالية" في الطرح الماركسي. كان للتاريخ ومجراه وللزمن وعوامله مسار آخر وعواقب خالفت كثيرا تمنيات أصحابها أو حتى جهدهم التحليلي العقلاني. فلا يوجد شيء يؤكد أن كل شيء في هذا الكون يسير بمنطقية مطلقة!
لنعد إذًا للمشروع
القطري في المنطقة، فقطر تلك الدولة الصغيرة جغرافيا وديموغرافيا والطامحة سياسيا واقتصاديا وتنمويا كونت خلال العشرية الماضية مشروعا سياسيا طموحا في المنطقة يهدف لتحويلها من دولة "هامش" جغرافي وسكاني إلى دولة ريادة إقليمية لها كلمتها في الأحداث السياسية بل والتحولات التاريخية في المنطقة، ولهذا استخدمت سلاح "الإعلام" كرأس حربة رئيسي في الوصول لمساحات كانت ممنوعة على مثل هذا الحجم من الدول، فالإعلام في العصر الحديث قادر على تحويل أية أقلية "قوية" إلى مرتبة عالية جدا من التأثير على الأغلبية، ولهذا استطاعت قطر "المتواضعة" جغرافيا وسكانيا أن تتحول لدولة مركز في عصر المعلومات لتناطح دولتي المركز الإقليميتين "مصر والسعودية"، ولتتحالف مع دول مركز "إقليمية" كتركيا وإيران في أوقات متفاوتة.
نستطيع أن نقول إن قطر قدمت نفسها للمنطقة وشعوبها من خلال هذه الصورة التي كانت عليها خلال السنوات من "95-2015"، وهذه الصورة التي ظهرت من خلالها متحالفة مع "الإسلام السياسي" ومتقاربة مع إسلاميي تركيا والسودان ومتحالفة مع الثورات الشعبية التي بدأت في تونس وانتهت في تونس، وهي كذلك الصورة التي كونتها قناة الجزيرة عن شبكة الدعم السياسي القطري لحركات المعارضة العربية جميعها، والتي عرفت الشعوب بهم من خلال شاشتها. وهي كذلك التي حولتهم في لحظة لرموز "متجاوزين" لحدود الجغرافيا والفعل السياسي المحلي، وهي التي "عرَّبت" -على وزن "عولمت"- الحدث الثوري والمعارض ونقلته بشاشتها إلى ميادين عربية أخرى، وهي التي دعمت حماس إعلاميا وسياسيا من خلال المنصات السياسية الدولية والعربية، هذه الصورة التي نتحدث عنها؛ هل أصبحت مهددة فعليا بالانتهاء بعد "ملامح" التسوية مع دول "الاعتدال" أو"التصهين" العربي في قول آخر؟ وهل نحن أمام قطر جديدة تتناسخ في صورتها مع "أبوظبي - الرياض - الكويت - القاهرة". هل تعلن خطوات التسوية نهاية الحقبة القطرية في السياسة الإقليمية نحو سيادة القطب الواحد عربيا وهو الرياض وخلفها الجميع؟
لقد أدى ربط السياسة القطرية بمشاريع
الربيع العربي وصعود الإسلاميين بالمنطقة إلى توأمة "وقتية" تستدعي المشاركة في المكاسب والخسائر وهذا ما حدث تحديدا، فأسهم قطر ارتفعت في "تباشير" الربيع وعاصفة الأمل التي أثارها ولكن سرعان ما تبخرت تلك الأماني وتراجعت تلك الأسهم أمام انحسار موجات الربيع في مصر واليمن وتونس واضطرابها في ليبيا، ليصبح التراجع قطريا أيضا ولتتقاسم قطر مع حلفائها خسائر اللحظة، ولكن قطر ليست كحلفائها الفاعلين، فهي دولة ذات موارد متجددة وضخمة وطموح دائم، ولذلك ارتأت القيادة الجديدة في موجة التراجع الإقليمي لمشاريعها أن تخفض الجناح للموجة القوية خاصة مع عودة عناوين الحرب على الإرهاب والقدوم الأمريكي الجديد والتحالف الدولي، والتي أصبحت قطر جزءا أصيلا فيه من خلال التحالف ضد الدولة الإسلامية، ومع عدم قدرة حلفائها المحليين على إحداث تحولات حقيقية في المشهد. ومع ضخامة الدعم اللامحدود من الرياض وأبوظبي للثورات المضادة، ومع تضخم الخطر الخاص بالدولة الإسلامية على خريطة الأنظمة العربية وتحولها لأولوية دولية، ارتأت قطر أن توقع هدنة منطقية تلتقط فيها أنفاسها لحين هدوء العواصف واعترافا منها بخسارة هذه الجولة. لكن يبقى السؤال: هل هي هدنة فقط أم "تحول" وتعطل نهائي واندماج في المشروع السعودي الإماراتي؟
يرجح أنصار نظرية "النهايات" أنها نهاية فعلية لدور قطري كان "احتوائيا" مسموحا به دوليا لكنه خرج عن النص المكتوب وما يحدث هو إنهاء لهذا الدور ومحاولة من اللاعبين الدوليين والإقليميين لدمج قطر باللعبة الإقليمية "الأحادية" وإنهاء الثنائية التي شكلت عصب الصراع السياسي الإقليمي، والتحول لثنائية جديدة هي "الإرهاب VS الدول"، ولهذه الرؤية منطقيتها السياسية والاستراتيجية ولكنها تقع فيما يقع به هذا النوع من إعلان النهايات، حيث يغتر بقسوة المشهد أو حتميته الظاهرة ولكن سرعان ما تزول تلك الحتمية عبر ترهل اللعبة الإقليمية مجددا وترميم اللاعبين المحليين لأنفسهم على أنغام الفوضى غير المتحكم بها وأزمات الاقتصاد والسياسة.
بالبحث الجيد خلف الخطوات القطرية الأخيرة، سنجد أن قطر قد تستحدث إعلاما جديدا ليس وثيق الصلة "علنا" بالدوحة ولا منها ينطلق، بل من دول أخرى؛ مع المحافظة على خط الجزيرة الحالي وتوسعها، إلا أن عشرات المشاريع الإعلامية التي تحتوي النخب الشبابية التي أنتجها الربيع العربي تم تسكينهم فيها مجددا ومازالت تفوح منها روح "الجزيرة" وخطها السياسي، بل وأن كثيرا من الوجوه تناسخت في تلك المشاريع الإعلامية حتى ليكاد يرى المرء فيها بصمات الدور السياسي الذي لعبته الجزيرة في الربيع العربي، ويبدو أن قطر تسعى من خلال دعم تلك المشاريع الإعلامية المتعددة للحفاظ على نخبة كونتها الثورات، بل وإعادة تقديمها للرأي العام العربي مجددا لتنمو من خلالها وتفتح أفقا لصوت معارض وسط البيئة الإقليمية ذات الصوت الواحد والرأي الواحد.
هذه الخطوة تحديدا تنبئ بأن التحول القطري لن يكون "ربما" نهاية للدور الخاص بها، بل إعادة تموضع وترتيب أوراق واستئنافا للدور السياسي لها عبر مشاريع جديدة وخطاب جديد وربما حلفاء جدد تصنعهم قطر أو تتعاون معهم، وهذه وجهة نظر أدعمها برغم وجاهة الرؤية الأولى المغايرة، إلا أن هناك شواهد لدي تمنع الجزم القوي بالنهايات. فقطر التي نمت "أنسجتها" عبر المشروع الذي مثلته الجزيرة ودور قطر السياسي سيكون من الصعب عليها التخلي عن هذه الأنسجة لأنه بالتخلي عنها تتخلى عن ذاتها، وهذا لم يحدث إلا في حالة القنبلة النووية باليابان، وهذا ما لم يحدث في منطقتها فالصراع أبعاده طبيعية جدا، ولهذا يصعب على قطر التخلي عن هذا الدور والمشروع وإنما ستحاول أن تعبر الموجة الحالية، ومن يدري فربما تستطيع فعلا زراعة أنسجة جديدة تتناغم والرياض وأبو ظبي، لكن هذا بالنسبة لي مستبعد.
فالعداوة مع "الرياض" و"أبوظبي" تاريخية جدا، والتنافس مع قطر جيوسياسي أيضا تتداخل فيه حتمية الجغرافيا التي تفترض تغول الكبير ومقاومة الصغير. ولهذا ستنتظر قطر ربما سنوات أو شهورا هي عمر الملك المتبقي لتدب لاحقا خلافات محتومة ببيت الملك السعودي ستسهم في اضطراب الدور السعودي ولو قليلا. كذلك ينتظر المنطقة خريف اقتصادي يعصف بالأخضر واليابس، ولن يمر حتى يصيب كبرياء أبوظبي وحلفائها كذلك. كما أن الحرب على الدولة الإسلامية ستستنزف ما تبقى من كبرياء القوة العسكرية لدول المنطقة، وحينها ربما يكون للدور القطري صعود جديد.
وختاما.. لا يعني كل ما قلته بالضرورة "دعما" أو انتظارا لدور قطري محتوم، بقدر ما هو تحليل لمسارات هذه القوة الكبيرة الصغيرة ومستقبلها.. ولست في حاجة للتأكيد على أن فاعلين جددا كداعش والجماعات المسلحة الأخرى والصعود "المحتمل لحركة الإخوان المسلمين" مجددا على أعتاب أزمات المنطقة، ربما يحوِّل الأنظمة العربية كلها إلى قوىً فاعلة "غير مركزية"، وتتم دحرجة الكرة لفاعلين من غير الدول.
من يدري؟! دعونا نرقب هذه التحولات أو نكون أحد أركانها.