إنه لأمر غير قابل للتصديق أن يُشدّد الحصار على قطاع
غزة من الجانب
المصري،جيش الكيان الصهيوني. وهو انتصار لم يتحقق من خلال الصمود والدعم السياسي العربي والإسلامي وبعض الدولي، كما كان الحال في السابق، وإنما تحقق في ميدان المواجهة على الأرض، حيث فرّت القوات الصهيونية المهاجِمة بعدما قوتلت من نفق إلى نفق ومن بيت إلى بيت، فضلاً عن فعل الصواريخ التي ضربت في العمق ولم تتوقف إلا بعد وقف إطلاق النار.
تسربّت في الأسابيع الأخيرة معلومات تناقلتها صحف الكيان وبعض القنوات الفضائية، ودُعِّم بعضها بالفيديو، بأن جرحى قوات العدو حوالي ألف وخمسمائة، من بينهم خمسمائة أصيبوا بأعطال دائمة. الأمر الذي يكشف أن المعركة الميدانية على الأرض كانت طاحنة، وأن خسارة قوات العدو كانت أكبر بكثير مما أُعلن عنه حتى من جانب المقاومة.
كان يُفترض بهذه النتائج لو ترافقت مع دعم مصري – عربي رسمي للمقاومة والشعب أن تختصر الحرب إلى أقل من أسبوعين لا أن تمتد إلى 51 يوماً. وكان يُفترض بأن يتهاوى نتنياهو وحكومته أرضاً ويخضعا لشروط المقاومة وتنفيذها فوراً. أما لو رافقت الحرب على قطاع غزة انتفاضة شاملة في الضفة والقدس وتحت مظلة وحدة وطنية تتقدمها "فتح" و"حماس" و"الجهاد" و"الجبهة الشعبية"، وبدعم مصري – عربي – إسلامي – رأي عام عالمي (إسلامي – رأي عام عالمي كانا متوفريّن)، لاضطر نتنياهو وحكومته الانسحاب إلى ما وراء الجدار دون أن يُقبل منهما، إلا مع القدس وكامل أراضي 1967، وبلا قيد أو شرط.
هذان الافتراضان ليسا نتاج أمنيات ورغبات، وإنما نتاج قراءة دقيقة لميزان القوى على مختلف المستويات، وذلك إذا تعزز ميزان القوى بالانتصار العسكري الميداني والصمود الشعبي في قطاع غزة، كما بانتفاضة شاملة في الضفة الغربية والقدس وبوحدة في الموقف الرسمي العربي.
لا مجال لمناقشة هذه الفرصة الضائعة؛ لأن هناك من سيعترض عليها، ولهذا لا حاجة للخوض فيها. ومن ثم، وهذا هو الأهم، لأن الموضوع الملتهب الذي يجب أن يرُكز عليه الآن ويكون موضع خلاف أو اتفاق، إنما هو استمرار حصار قطاع غزة بأشد مما كان عليه، في معبر رفح قبل حرب تموز/آب 2014.
يجب أن تسقط فوراً حجة الذين يعتبرون فتح معبر رفح أمام الأفراد، بمن فيهم الجرحى والمرضى والطلبة وتحت الإشراف المصري المباشر والصارم، يمكن أن يتسبب بأي ضرر أمني على مصر. كما أن فتحه باتجاه دخول مواد البناء لإعمار القطاع قد يكون سبباً لأضرار تمسّ الأمن القومي المصري.
فالسؤال مع ذلك لماذا استمر الحصار واشتدّ أكثر مما كان عليه في الأشهر التي سبقت الحرب ما بين تموز/ يوليو 2013 وتموز/يوليو 2014؟ ولماذا ذهبت أدراج الرياح مقررات مؤتمر المانحين لإعادة إعمار قطاع غزة؟ وقد عُقد في القاهرة وقبله وبعده جمدت الرعاية المصرية للمفاوضات غير المباشرة التي توقف إطلاق النار، شريطة تحقيقها لمطلب فك الحصار وشروط أخرى.
أعلن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في خطابه أمام المؤتمر المذكور أعلاه أن إعادة الإعمار تعتمد على محورين: الأول تهدئة دائمة والثاني تسلم السلطة الوطنية الفلسطينية سلطتها الكاملة على قطاع غزة.
وأعلن الرئيس الفلسطيني محمود عباس بعد لقاء الرئيس المصري أمام مجلس الجامعة العربية: أن لا مصالحة فلسطينية إلا على أساس ثلاثة شروط: الأول قرار فلسطيني واحد للحرب والسلم، الثاني سلاح فلسطيني واحد، والثالث سلطة واحدة على كامل قطاع غزة.
هذه الشروط المصرية لإعمار قطاع غزة، والفلسطينية لتحقيق الوحدة الوطنية الفلسطينية تتوجه أصلاً إلى، أو تستهدف فوراً، سلاح المقاومة وأنفاقها في قطاع غزة. وهي شروط لا يمكن أن تقبل بها فصائل المقاومة ولا الشعب في القطاع أو الشعب الفلسطيني والشعوب العربية والإسلامية بعامة. فسلاح المقاومة وأنفاقها وصواريخها ومصانع أسلحتها وإجراءات أمنها وسريتها لا تتعلق بحماس وحدها، ولا بمسألة بسط سلطة حكومة محمود عباس على قطاع غزة في كل المجالات، شريطة ألا تقترب من السلاح والأنفاق والصواريخ وما يتعلق بها من إجراءات أمنية وسرية.
ما أروع أن يتقدم أحد ويقول إن الشروط التي طرحها الرئيسان المصري والفلسطيني لا تمسّ سلاح المقاومة وتبعاته. ولكن للأسف لا أحد قال بذلك أو دافع عن الموقفين الرسميين المصري – الفلسطيني، معتبراً بأن هناك تجنياً في تفسير هذه الشروط فهما لا يستهدفان سلاح المقاومة.
ولكن الشكل غير القابل للتصديق أكثر من استمرار
حصار غزة حتى الآن، يأتي من الذين يمرون عن تلك الشروط التي تمسّ سلاح المقاومة مرور الكرام، وكأنها لا تعني شيئاً لهم، فيما يعلنون أنهم مع المقاومة في قطاع غزة، ويمجدون انتصارها في الحرب.
هنا يتجلى مكر الخطاب ومكر السياسة في أعلى صورهما. ويصبح استمرار الحصار من خلال معبر رفح أمراً واقعاً عادياً لا يستحق أن يثار بقوة، فيما كارثة إنسانية وسياسية واجتماعية وأخلاقية تقع بسببه على مليون ونصف المليون إنسان من سكان قطاع غزة. فمائة يوم من حصار خانق يمسّ تنقل الأفراد وعبور الأدوية ومواد البناء ويصيب آلاف المرضى والجرحى والطلبة، لا يصبح قضية القضايا بالنسبة إلى الجانب الإنساني، إن لم يكن من جانب استهدافه لسلاح المقاومة.
المشكلة في هذا الحصار أنه لن يُكتب له تحقيق هدفه المتعلق بسلاح المقاومة، لأنه سيدفع الأمور إلى تجدّد الحرب مع الكيان الصهيوني عندما يصل التضييق إلى المستوى الذي لا يحتمل. فالمائة يوم الثانية أو الثالثة لن تكون كالمائة يوم الأولى التي مرّت منذ وضعت الحرب أوزارها. والحجة هنا متوفرة بسبب استمرار الحصار الصهيوني كذلك، وقد أُضيفَ إليه حصار مندوب أمين عام الأمم المتحدة السيد روبرت سري الذي وضع برنامجاً لدخول مواد الإعمار، كما الإعمار تضمّن شروطاً أسوأ من التي يمكن لنتنياهو أن يُفكر فيها، (والأنكى ادعاؤه أنه عرضها على السلطة الفلسطينية ووافقت عليها، أو على أحد المتنفذين من وراء ظهرها). فالسيد روبرت سري عدو مفضوح للشعب الفلسطيني؛ لهذا يجب أن تُمارس الضغوط، وتُمارس الوساطات، ويتدخل الناصحون ليُفتح معبر رفح أمام الأفراد والبضائع ومواد البناء. فالمطلوب هنا "العنب وليس مقاتلة الناطور".
فالوضع في قطاع غزة لا يُطاق. ولا يجب أن يُسكت عليه.