مقالات مختارة

سلاح البارانويا

1300x600
كتب  ديفيد اغناتيوس: بدأت دودة البارانويا تقضم طريقها نحو حتى أشد الأعداء صلابة، وهو ما تجلى في رسالة نشرت عبر موقع «تويتر»، الأسبوع الماضي، تعرض منشوراً من «داعش» يعرض مكافأة 5000 دولار لمن يدلي بمعلومات عن عملاء لـ«الصليبيين» داخل صفوف الجماعة.

من يدري، ربما يكون هناك جواسيس غربيون يتسللون في هذه اللحظة إلى داخل صفوف «داعش»، لكن ربما أيضاً يكون هذا المنشور زائفاً ويرمي فقط لبث الريبة في نفوس مقاتلي التنظيم تجاه زملائهم. الحقيقة هي أن «الجهاديين» ليس بمقدورهم معرفة الحقيقة بصورة قاطعة، وفي كلتا الحالتين، تمضي دودة البارانويا في طريقها.

في الواقع، دفعني هذا المنشور للتفكير في أحد جوانب الحملة التي تقودها الولايات المتحدة «لإضعاف وفي النهاية تدمير داعش» - الذي لا يحظى باهتمام كبير - وهو دور «الحرب غير التقليدية»، ونقصد من ذلك فنون الحرب التي تناولها صن تزو، وتدور حول مجموعة من الحيل والألاعيب والمكائد التي تدفع الأعداء لإلحاق الضعف بأنفسهم والتشكك في عقيدتهم وقياداتهم.

ويمكن للعمليات غير التقليدية أن تحمل تكاليف أقل بكثير من حيث المال والأرواح عن النشاطات الحركية داخل ميدان القتال. وبدلاً من الاعتماد على إطلاق الأعيرة النارية من طائرة «أباتشي» (الأمر الذي غالباً ما يخلق أعداء بقدر ما يقتل)، بإمكان هذه الأدوات غير التقليدية دفع العدو نحو مهاجمة نفسه بنفسه. وعبر استغلال مثل هذه التكتيكات الخادعة، يحاكي ذلك التحالف الذي تتزعمه واشنطن أسلوب «الرجال المتشحين باللون الأخضر»، الذي انتهجته روسيا في أوكرانيا.

وفي ما يلي بعض الأمثلة القليلة البارزة على التدمير الهائل الذي يمكن لهذه الأساليب تحقيقه:
في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، انهارت منظمة «أبو نضال» جراء مشاحنات داخلية أججتها الاستخبارات الأميركية والبريطانية والأردنية. وذكر عنوان رئيسي لصحيفة «نيويورك تايمز» في نوفمبر (تشرين الثاني) أن «العرب يقولون إن الصراع على السلطة قسم جماعة أبو نضال الإرهابية». بيد أن هذا الانقسام لم يكن وليد الصدفة، حيث أخبرتني مصادر بأنه تم تسريب معلومات إلى أعضاء الجماعة الإرهابية، دفعتهم للتشكك في أقرانهم واتهامهم بسرقة أموالهم وأصدقائهم وسلطاتهم. وفي نهاية الأمر، دمرت الجماعة نفسها بنفسها.

كما تضم الحرب العالمية الثانية في جعبتها مجموعة من الأمثلة الشهيرة على أساليب الخداع والتلاعب. ربما يكون أبرزها على الإطلاق عملية «الصليب المزدوج» البريطانية، التي جرى وصفها في كتاب أصدره بن ماكنتاير عام 2012، والتي تمكن البريطانيون خلالها من السيطرة على كل عميل ألماني تم إرساله للتجسس عليهم واستغلاله. ونسج البريطانيون مجموعة من الأكاذيب أقنعت القادة الألمان بأن عمليات الإنزال لقوات الحلفاء ستتم في كاليه، وليس نورماندي.

ومن بين عمليات الخداع العبقرية الأخرى دفع جثة بريطاني للطفو على الماء قرب ساحل إسباني كان تحت الاحتلال الألماني. وكان الرجل المتوفى يحمل ما بدا أنه رسائل سرية تصف خطة للحلفاء لمهاجمة ألمانيا عبر اليونان. وكان الهدف إخفاء الخطة الحقيقية للحلفاء لمهاجمة ألمانيا عبر مملكة صقلية. وقد نجحت هذه الكذبة البارعة أيضاً، مثلما ورد في كتاب ماكنتاير الصادر عام 2010 بعنوان «عملية اللحم المفروم».

ربما يكون سر اهتمامي بهذا الجانب هو أن الروائي بداخلي المهتم بقصص التجسس يتطلع نحو قصة يكتبها في المستقبل، لكن أتمنى أن تدرس واشنطن وحلفاؤها كيفية العمل «على نحو غير تقليدي» في العراق وسوريا على نحو يقوض «داعش». وتقوم هذه الجماعة البالغة الوحشية برصد العشرات من مقاتليها وقتلهم رمياً بالرصاص لارتيابها في ولائهم. ورغم أن مثل هذه الإجراءات ربما تعزز الانضباط على المدى القصير، فإنها تتحول على المدى الطويل إلى مؤشر على الضعف، فليس هناك إنسان يمكن أن يختار العيش في ظل مثل هذا النظام للأبد.

الملاحظ أن واحدة من المناقشات العامة القليلة حول كيف يمكن أن تفيد الأساليب غير التقليدية في الحرب ضد «داعش»، جرت في 20 أكتوبر (تشرين الأول) عبر مدونة «وور أون ذي روكس» (حرب على الصخور)، وهي المدونة العسكرية المفضلة لديّ. وخلال المناقشة، شرح ضابط الجيش السابق وعميل مكتب التحقيقات الفيدرالي الخاص، كلينت واتس، سبلاً متنوعة لتأجيج الانقسام والتشرذم، على النحو التالي:

«حاولوا زرع الفرقة بين قيادات (داعش) التي يهيمن عليها العراقيون وجنودهم الأجانب. لقد أخبرني أثيل النجيفي، حاكم محافظة نينوى، خلال مقابلة أجريتها معه، الاثنين، بأن انقسامات بدأت بالفعل بين العناصر الأجنبية والمحلية من الجهاديين داخل الموصل، على خلفية توترات بين الأعضاء التركمان من ناحية والعرب السنة من ناحية أخرى داخل الجماعة. والتساؤل الآن هل هذه التقارير صحيحة؟ سيتعين على زعيم (داعش)، أبو بكر البغدادي، الإجابة على ذلك».

كما يقترح واتس إذكاء روح العداء بين اللصوص والمجرمين الذين ينجذبون نحو «داعش»، والمتشددين الدينيين الذين يشكلون لب الجماعة. ويقترح إرسال عناصر لاختراق (أو نشر تقارير حول حدوث عمليات اختراق) صفوف الجماعة. وأشار إلى أن هذه الأساليب نجحت في الصومال والجزائر. وأخيراً، أعتقد أن «داعش» سينهار جراء وحشيته التي تقضي على الدعم الشعبي له. وأوضح واتس أن «الإجراءات العسكرية ضد الجماعات الإرهابية، مثل الضربات الجوية، تجعل من القيادات الجهادية شهداء.. لكن القضاء على جاذبية (داعش) سيتحقق فقط من خلال قلب هذه الثورة.. من شهداء لأوغاد».



(صحيفة الشرق الأوسط)