كتبت
هيفاء زنكنة: صرح حيدر العبادي، رئيس الوزراء العراقي الجديد، أثناء وجوده في نيويورك لحضور جلسات الأمم المتحدة، وبثقة ستثير، غيرة كولن باول، وزير الخارجية الأمريكي السابق، المشهور بتصريحه المستند إلى تقارير «ذات مصداقية»، في مبنى الأمم المتحدة بنيويورك، عن وجود أسلحة الدمار الشامل بالعراق وقدرة العراق على تهديد أمريكا والعالم، عشية غزو العراق عام 2003، قائلا: «اليوم، بينما أنا هنا، في نيويورك، تلقيت تقارير دقيقة، من مخابرات ذات مصداقية في بغداد، حيث اعتقلت بعض عناصر
داعش…تفيد التقارير أن هناك شبكات تخطط، من داخل العراق، لتنفيذ هجمات على شبكات المترو في باريس والولايات المتحدة».
والتصريح الخارق، حتى بمقاييس أجهزة الاستخبارات الأمريكية، منح قوات الغزو الجديد، مفاتيح أبواب السماء والأرض العراقية، وحسب القانون الدولي.
وأصبحت طلعات «التحالف الكوني» الجوية والغارات بواسطة الطائرات المسيرة، المعلنة بأنها ضد تنظيم داعش، دفاعا عن المترو الأمريكي والفرنسي، تغطي سماء العراق، بدلا من النجوم التي كانت ترصع سماءنا في ليلة صافية. هناك سباق محموم حول من الذي ينفذ طلعات جوية أكثر، ولم لا وميزانية المصاريف مدفوعة من جيب المواطن العراقي والعربي واستخدام السماء والأرض العراقية، لإجراء التدريب الجوي والعسكري بالإضافة إلى اختبار الأسلحة الجديدة، لايكلف شيئا!
لذلك ليس من المستغرب أن يعلن وزير الدفاع الأمريكي تشاك هيغل أن الطائرات الأمريكية شنت أكثر من 200 غارة جوية بمشاركة فرنسا، وسارعت وزارة الدفاع البريطانية للمشاركة لئلا يفوتها قطار الغنائم الموعودة. أما وزارة الدفاع العراقية فقد بلغ معدل طلعات «طيران الجيش والقوة الجوية 89 طلعة جوية خلال 24 ساعة».
فما الذي أنجزته هذه الطلعات والغارات، حتى اليوم؟ آخذين بعين الاعتبار، إن عدد دول « التحالف الكوني» يزيد على الخمسين بلدًا بالإضافة إلى عشر دول عربية، من بينها السعودية والإمارات وقطر والأردن، وقد أقسموا جميعا يمين الولاء لأمريكا لمحاربة داعش ودعم العراق بجميع الوسائل اللازمة وضمنها المساعدات العسكرية، التي بدأت بالوصول، فعلا، من ألمانيا، بالإضافة إلى أمريكا وفرنسا، إلى حكومة أقليم كردستان من جهة وحكومة بغداد من جهة أخرى، وبشكل منفصل، تكريسا للخطوة التالية وهي تقسيم العراق؟
استنادا إلى تحليل البيانات الصادرة من المسؤولين العسكريين العراقيين ومتحدثي الحلف الكوني، لم تحقق هذه الطلعات والغارات والقصف العشوائي شيئا باستثناء قتل المزيد من المواطنين. ففي يوم الجمعة، مثلا، أفاد مصدر طبي في مستشفى الفلوجة العام بمحافظة الأنبار، بأن عشرة أشخاص سقطوا بين قتيل وجريح غالبيتهم أطفال ونساء. وقبلها، قتل 22 طفلا نتيجة قصف مدرسة في تكريت. فهل الأطفال أعضاء في داعش؟ أم أن قتلهم فعل استباقي، كما عودتنا أمريكا وخدامها، لكل ما يمثل الحياة؟
ويقول أعضاء الحلف الكوني بأنهم يستهدفون مقاتلي داعش الإرهابيين، فنتساءل: كيف يتم التعرف على مقاتلي داعش بالتحديد، وبالتالي استهدافهم، بواسطة الغارات الجوية، دون غيرهم من المدنيين الأبرياء؟
عندما تم توجيه السؤال إلى وزير الدفاع الأمريكي تشاك هيغل، قال بثقة عالية: «نحن نعرفهم. نحن نعرف داعش»! كيف يعرف هيغل مقاتلي داعش؟ لننس، هنا، نظرية تصنيعهم، ونتساءل: كيف؟ لأنهم ملتحون ويرتدون
الدشداشة واللون الأسود؟ لكن نصف الرجال العراقيين، على الأقل، ملتحون ويرتدون الدشداشة! ما الذي يمنع أعضاء داعش من خلع الأسود وارتداء اللون الأخضر أو ألابيض أو حتى زيا آخر؟ ألم يخلع 30 ألف جندي عراقي الزي العسكري وهربوا من الموصل في 10 حزيران/ يونيو؟ ثم هل من المعقول أن مقاتلي داعش، جميعا، يعيشون في قواعد وثكنات عسكرية خارج المدن، بعيدا عن السكان؟ ما هذه الهلوسة « الكونية»؟
ومن يظن أن تشاك هيغل غير جاد فيما يقوله، أو أنه يبيع التضليل بالجملة، عليه أن يعيد قراءة تصريح العبادي، ليفهم معنى التضليل أو الأصح الهلوسة العقلية، وفق مدرسة حزب الدعوة الحاكم. المعروف أن البعض استبشر بتعيين العبادي خلفا للمالكي، باعتباره رجلا علميا، وأنه سيتصرف بشكل مغاير لأمين عام حزبه. عودة إلى تصريح العبادي، ماهذا التعاون المذهل؟ وزير الدفاع الأمريكي يطير ويقصف على هواه في الأجواء العراقية لأنه يعرف داعش بينما يقرفص، في بلده أمريكا، منتظرا معلومات العبادي عن « الشبكات» الإرهابية التي تهدد أمريكا وفرنسا، وفي ذات اليوم الذي يتواجد فيه كل الرؤساء في نيويورك؟ أين تمت صناعة هذا الفيلم المضحك المبكي؟ وإذا كانت أجهزة استخبارات العبادي بهذه المهارة في تشخيص الإرهابيين، إلى حد تحذير أمريكا وفرنسا، فلم لاتزال أشلاء العراقيين تتطاير نتيجة التفجيرات والقصف، بمعدل 50 مواطنا يوميا؟
إن تصريحات العبادي، تغليف زائف لجريمة كبرى، شرع ساسة العراق الحاليون بتنفيذها عام 2003 حين اصطحبوا المحتل زاحفين راكعين، وهاهم يكررون ارتكاب ذات الجريمة لشرعنة الاحتلال بشكل دعوة صريحة ومباشرة، ستؤدي، كما يصرح مسؤولو الإدارة الأمريكية إلى البقاء سنوات عدة، إذ لا يرد الكريم إلا اللئيم. ماذا عن السيادة الوطنية؟
يطمئن العبادي أولئك القلقين على السيادة الوطنية بأنه أكد، عقب لقائه نائب الرئيس الأمريكي جو بايدن، على أهمية «احترام سيادة العراق ووحدة أراضيه». وماهي آلية تنفيذ ذلك؟ يقول العبادي: «إنه حصل على تطمينات من الدول المنضوية في التحالف الدولي لضرب داعش بأنها لا تقوم بأي عمل عسكري داخل الأراضي العراقية دون إذن الحكومة المركزية في بغداد». ولكن، ما الذي سيمنع الحكومة المركزية، بعد أن منحت كل من هب ودب الإذن بالقصف الجوي، من منح الإذن بالعمليات العسكرية على الأرض، خاصة وأن هناك تقارير تشير إلى دخول ما لا يقل عن عشرة آلاف جندي احتلال، بالإضافة إلى المرتزقة وفرق العمليات الخاصة الموجودة فعلا على الأرض؟
لقد أثبتت الشهور الأخيرة، أن صناعة داعش بضاعة مربحة لكل الأطراف، العراقية والأجنبية، الهادفة إلى إخماد صوت المعارضة ضد نظام طائفي فاسد، وقتل أي أمل بمستقبل ديمقراطي حقيقي، لعراق موحد، يتمتع بالسيادة السياسية والأقتصادية.
وتصب حملة التضليل الواسعة المبنية على تضخيم دور داعش عدة وعددا، واستغلال حالة الهلع العامة التي يثيرها التنظيم ويبني وجوده عليها، في هذا المصب. في هذا الجو الملتبس، وفي فورة الأحداث وارتفاع حدة المشاعر، لنتذكر أن العراقيين الذين قاوموا الاحتلال الانجلو أمريكي هم أنفسهم من حارب « القاعدة» والإرهاب ودفعوا حياتهم ومن يحبون ثمنا لذلك. وأنهم، أنفسهم، الذين أنهكتهم التنظيمات والميليشيات الإرهابية بكافة أنواعها سواء الحكومية أو الداعشية أو التابعة لأجهزة المخابرات الأمريكية والإيرانية، وبدون تحقيق العدالة لهم، والتعامل معهم كمواطنين، لن يكون للسلام مكان في العراق، مهما استنجد الحكام، أيا كانوا، بالغزاة.
(القدس العربي)