كتاب عربي 21

الدولة الإسلامية والقاعدة: في جذور الخلاف

1300x600
في سياق الخلاف وتبادل الاتهامات بين أنصار الدولة الإسلامية وأنصار تنظيم القاعدة حول طبيعة العلاقة وتمثيل المنهج، كانت الحقيقة حاضرة في حجج الفريقين، إلا أن منطق الجدل المبني على قطع الخصم حملهما على الاقتصاد في سردها، وغاب منهج المناظرة كآلية حجاجية لإظهار الحق والصواب، فالخلاف بين الفرع العراقي للقاعدة والتنظيم المركزي كان معروفا ومسلما به منذ بيعة الزرقاوي لابن لادن وصولا إلى "إعلان الدولة"، فأجندة القاعدة تهدف منذ الإعلان عن تأسيس "الجبهة الإسلامية العالمية لقتال اليهود والصليبيين" عام 1998 إلى قتال "العدو البعيد" ممثلا بالغرب عموما والولايات المتحدة خصوصا باعتبارها حامية للأنظمة العربية الاستبدادية، وراعية لحليفتها الاستراتيجية إسرائيل المغتصبة لفلسطين من جهة، والسعي لتطبيق الشريعة وإقامة الخلافة من جهة أخرى، فمواجهة الغرب ورفع الهيمنة الخارجية، والتصدي للاستبداد وتمكين الشريعة داخليا هما ركنا القاعدة الأساسيين.

  أما أجندة الفرع العراقي منذ الزرقاوي وصولا إلى البغدادي فتقوم على أولوية قتال "العدو القريب" ممثلا بالمشروع الصفوي الإيراني وحلفائه وأعوانه في المنطقة، فالأساس الهوياتي هو المحرك الرئيس لسلوك الفرع العراقي بينما الأساس المصلحي الجيوسياسي هو المحرك الرئيس للقيادة المركزية للقاعدة، أما تمكين الشريعة فهو الهدف المشترك للطرفين، القاعدة وفق استراتيجيات النكاية، والدولة بحسب استراتيجية التمكين.  

فعندما تمكن الزرقاوي من فرض شبكته بقوة داخل المجتمع السني العراقي، عقب احتلال العراق 2003، وتنامت قوته عقب "معركة الفلوجة" الأولى، وسط إخفاق أمريكي سياسي وعسكري، وبسبب الممارسات الطائفيّة الشيعيّة وفرق الموت، أعلن الزرقاوي عن تأسيس جماعة "التوحيد والجهاد" في أيلول/ سبتمبر 2003، وعلى الرغم من بعض الاختلافات بين نهج الزرقاوي وبن لادن زعيم تنظيم القاعدة، إلا أن المصالح المشتركة وفي مقدمتها استهداف الولايات المتحدة أسفرت عن بيعة الزرقاوي لبن لادن بتاريخ  8 تشرين الأول/ أكتوبر 2004، والإعلان عن تأسيس "قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين".

لكن بيعة الزرقاوي لبن لادن وإعلان الانضمام للقاعدة لم تكن تعني التخلي عن استراتيجية أحدهما، فقد أصر الزرقاوي على أولوية قتال "العدو القريب"، وتكتيكاته القتالية العنيفة، ولا فرق بين عدو خارجيٍّ باعتباره كافر أصليّ، أو عدو داخلي، باعتباره كافر مرتد؛ فهو يؤكد على أن: "لا فرق بين أمريكيٍّ أو عراقيٍّ كرديًّا كان أم عربيًّا سنيًّا كان أم شيعيًّا".

لقد أجبر الزّرقاوي تنظيم القاعدة المركزي على الاعتراف بصواب نهجه، والخضوع لاستراتيجيته، فقد ظهر كقائد ميداني استثنائيّ ومرعب استطاع أن يخطف الأضواء من خلال إيديولوجيته الصّارمة وتكتيكاته المرعبة، وعلاقاته مع الجهاديّة العالميّة، وتعززت مكانته بعد خسارة القاعدة لعددٍ من قادتها الميدانيين الكبار في إطار الحملة الواسعة التي شنَّتها الولايات المتحدة، في سياق سياسة "الحرب على الإرهاب" كأبي حفص المصري الذي قتل في غارة أمريكية، ثم اعتقال كلٍّ من أبو زبيدة ورمزي بن الشيبة وخالد شيخ محمد، حيث تدّفق مئات المتطوعين من العالم العربي والإسلامي وأوروبا للالتحاق بالزّرقاوي، وبدا أكثر إصرارًا على تنفيذ استراتيجيته المتعلقة بالعدو القريب والشيعة خصوصا عبر تكتيكاته القتالية العنيفة، ولم تنقطع انتقادات القاعدة وأنصارها لسلوك الزرقاوي.

فقد وجه أحد شيوخ الزرقاوي وهو أبو محمد المقدسي انتقادا حادا بخصوص التوسع في العمليّات الانتحارية وتكفير الشيعة واستهداف المدنيين، حيث أصدر رسالة بعنوان: "الزرقاوي آمال وآلام: مناصرة ومناصحة"، وهو ما يفعله المقدسي اليوم مع أبو بكر البغدادي عبر عدد من الرسائل والكلمات المسجلة، لكن الزرقاوي كان حاسما في رده إذ يقول: "أعيذك بالله أن تتّبع خطوات الشيطان فتهلك، فاحذر يا شيخنا الفاضل من مكر أعداء الله، واحذر أن يستدرجونك لشقِّ صف المجاهدين".

لم يكن الزرقاوي يستند في مرجعيته على المقدسي ولا أبو قتادة رغم اعترافه بفضلهما ومشيختهما، فقد حسم خياراته النظرية والعملية في بناء شبكته وتنظيمه إيديولوجيا وفكريا وفقهيا على مرجعية شيخه أبو عبدالله المهاجر، فقد كان له الأثر المباشر في بناء عقيدته القتالية ونهجه الفقهي، وخصوصا المسائل المتعلقة بأولوية قتال "العدو القريب" المتمثل بالمرتدين من الأنظمة العربية والإسلامية الحاكمة، وكذلك مسألة تكفير الشيعة عموما، ومعظم خيارات الزرقاوي الفقهية المتشددة الخاصة بالعمليات الانتحارية، ومسألة التترس، وعمليات الاختطاف والاغتيال، وقطع الرؤوس، وتكتيكات العنف والرعب،  فبحسب المسؤول الإعلامي لجماعة الزرقاوي ميسرة الغريب: "كان شيخنا الزرقاوي رحمه الله يُحب شيخه "أبا عبد الله المهاجر" ــ فك الله أسره ــ ويُجِلُّه ويثني عليه ويَوَدُّ لو يأتي إلى العراق، وكانت قرائنُ الحال تَدُلُّ أنه لو أتى لأوكل إليه مسؤولية الهيئة الشرعية، وكان شيخُنا يحثني على تدريس الطلبة كتاب الشيخ المهاجر "أعلام السنة المنشورة في معالم الطائفة المنصورة" وكنا صورناه، وبدأْتُ تدريسَه للإخوة، هذا فضلاً عن كتاب "فقه الدماء" الذي كنا ننتظر وصوله إلى الفلوجة وقتَها ولم يصل إلى أن بدأَتْ معركة الفلوجة الثانية، وكان الشيخ ذكر لي أنه دَرَسَه عند الشيخ "المهاجر" أربعَ سنوات إن لم تخني ذاكرتي...ثم دارت الأيام ودخل الكتاب إلى العراق بعد أحداث الفلوجة الثانية وطُبِعَت منه نسخٌ كثيرة جداً، تحت اسم "مسائل من فقه الجهاد"، وهو كتابٌ جيد قوي، جدير أن يلخَّص منه ويُدَرَّس للإخوة المجاهدين.

أما أبو عبد الله المهاجر فهو الشيخ عبد الرحمن العلي، مصري الجنسية، يتمتع باحترام وتقدير من كافة الجهاديين في العالم، تلقى علومه الإسلامية في باكستان، وكانت تربطه علاقة وثيقة بالزرقاوي،  تخرّج من الجامعة الإسلامية في إسلام آباد، ورابط في أفغانستان حيث أنشأ مركزاً علمياً دعوياً في معسكر خلدن، ودرّس في مركز تعليم اللغة العربية في قندهار، ثم في معسكرات المجاهدين في كابل، وتولى التدريس في معسكر الزرقاوي في هيرات، و كان مرشّحاً لتولّي مسؤوليّة اللجنة العلمية والشرعيّة في تنظيم القاعدة،  وكان معتقلا إيران، وقد أفرج عنه وعاد إلى مصر  بعد أشهر من قيام الثورة.

وبعتبر كتاب "مسائل من فقه الجهاد" للمهاجر الأساس الفقهي المعتمد، ودليل العمل الإرشادي للزرقاوي وجماعته، وهو نفس كتاب "فقه الدماء" الذي أشار إليه الغريب، وباستعراض أبواب الكتاب، نجد تطبيقاته واضحة ميدانيا، إذ يؤسس في المسألة الأولى بعنوان دار الحرب، لاعتبار كافة الدول في العالم وفي مقدمتها العربية والإسلامية دخلت في حد الردة والكفر، ويجب قتالها، إذ يخلص المهاجر إلى القول: "انعقد إجماع أهل الإسلام كافة على أن دار الكفر: دار إباحة للمسلمين؛ فإذا دخلوها بغير أمان: فلهم التعرض لدماء الكفار وأموالهم بما شاؤوا".، وقد بحث في المسألة الرابعة مشروعية اغتيال الكافر المحارب، وخصص المسألة الخامسة في جواز العمليات الاستشهادبة، والمسألة السابعة في مشروعية رمي الكفار وقتلهم وقتالهم بكل وسيلة تحقق المقصود، وفي الثامنة مشروعية رمي الكفار الحربيين بكل ما يمكن من السلاح وإن اختلط بهم من لايجوز قتله من المسلمين، وجاء في المسألة التاسعة مشروعية أعمال التخريب في أراضي وأملاك ومنشآت العدو، أما المسألة العاشرة فهي بعنوان مشروعية خطف الكفار الحربيين، وفي المسألة الحادية عشرة بحث في أحكام المثلة، وقد خصص المسألة الثانية عشرة في مشروعية قطع رؤوس الكفار المحاربين.

لقد كان نهج الزرقاوي كما هو حال خلفائه مختلفا عن القاعدة لكن ذلك لم يمنع من الانضمام والبيعة، فقد كانت بيعته مشروطة وواضحة، ففي سياق التواصل بين الطرفين رغم الاختلاف بعث الزرقاوي رسالة إلى بن لادن في كانون ثاني/ يناير 2004، كشفت عنها السلطات الأمريكية آنذاك، واعترف بصحتها تنظيم الزرقاوي ونشرها ضمن رسائله، كما اعترف بصحتها ميسرة الغريب وأبو أنس الشامي، وكانت الرسالة تهدف إلى التوصل لصيغة مشتركة وتقريب وجهات النظر والتصورات الاستراتيجية للصراع تمهيدا للبيعة، وقد تضمنت طلبا للمساعدة بشن  حرب شاملة على جميع أطراف العملية السياسية التي تعمل مع الاحتلال، سنية كانت أم شيعية، واستثمار سياسات الهوية في شن "حرب طائفية في العراق"، وتعتبر الوثيقة تدشينا لاستراتيجية الزرقاوي ورؤيته المختلفة بخصوص أولوية قتال العدو القريب، فهو يجادل قيادة القاعدة بالتهوين من نهجها المتعلق بالعدو البعيد، ويؤكد على وجود معركتين؛ فبحسب الزرقاوي: المعركة الأولى: مستوى ظاهر مكشوف مع عدو صائل، وكُفرٍ بيِّنٌ (أي مع الولايات المتحدة كعدو بعيد وكافر أصلي، وهو عدو القاعدة الأول). والمعركة الثانية: معركة صعبة ضروس مع عدو ماكر، يتـزيا بزي الصديق، ويظهر الموافقة ويدعو إلى التآلف، ولكنه يضمر الشر، ويفتل في الذروة والغارب، وقد صار إليه ميراث الفرق الباطنية التي مرت في تاريخ الإسلام، وتركت في وجهه ندوبا لا تمحوها الأيام (أي مع العدو القريب الكافر المرتد سنيّا كان أم شيعيّا)، فهذا العدو المتمثل بالرافضة، المُطعَّم بعملاء - من المحسوبين على أهل السنة - هو الخطر الحقيقي الذي نواجهه، فبحسب الزرقاوي: "إن قتالنا مع الأمريكان أمر يسير، فالعدو ظاهر ومكشوف الظهر، جاهل بالأرض وجاهل بواقع المجاهدين، لضعف المعلومة الاستخبارية لديه، ونعلم يقيننا أن هذا القوات الصليبية ستواري غدا أو بعد غد"، أما الشيعة: "الرافضة: العقبة الكؤود والأفعى المتربصة وعقرب المكر والخبث والعدو المترصد والسم الناقع"،  وخطرهم دائم وطموحهم واسع، إذ يؤكد الزرقاوي على أن: "آمالهم تعظم مع الأيام في أن يقيموا دولة الرفض لتـمتد من إيران مرورا بالعراق وسوريا ولبنان وانتهاء بمملكة الخلـيج الكرتونية".

لا يتردد الزرقاوي في تأكيد صواب نهجه بأولوية قتال العدو القريب، ممثلا بالشيعة أولا، فهو يقول في بيان آلية العمل: "إنها -أي الرافضة- قد أعلنت الحرب المبطنة على أهل الاسلام، وإنها العدو القريب الخطير لأهل السنة، وإن كان الأمريكان هم أيضا عدوا رئيسيا، ولكن الرافضة خطرهم أعظم، وضررهم أشد وأفتك على الأمة من الأمريكان، الذين تجد شبه إجماع على قتالهم، كونهم عدوا صائلا .. إن قتالنا للرافضة هو السبيل لإستنفار واستهاض هِمم الأمة للمعركة ".

كانت عملية مناهضة الشيعة ركنا أساسيا في مشروعه وتوجهه لا يمكن المساومة عليها مع تنظيم القاعدة، فقد أخذت المسألة الطائفية بالتدرج والتحول من الإطار الاستراتيجي السياسي إلى عمق التوجهات الدينية، فبحسب الزرقاوي: "تعالت وتيرة العمليات وكان ذلك في المثلث السني ــ إن صحت التسمية ــ مما جعل الأميركان يضطرون إلى عقد صفقه مع الرافضة شر الورى وقد تمت الصفقة على أن يحوز الرافضة ثلثي الغنيمة في سبيل الوقوف في صف الصليبين في وجهه المجاهدين"، وقد خلص الزرقاوي إلى إصدار حكم عام بتكفير الشيعة إذ يقول: "إن التشيع  دين لا يلتقي مع الإسلام إلا كما يلتقي اليهـود مع النصـاري تحت لافتة أهل الكتاب". 

يختتم الزرقاوي رسالته لقيادة القاعدة بتأكيد المضي على نهجه المتعلق بأولوية قتال العدو القريب واستهداف الشيعة ومناهضة المشروع الإيراني (الصفوي) في المنطقة وتكفير واستهداف الشيعة، كشروط لا يمكن المساومة عليها للانضمام لتنظيم القاعدة وتمثيله إقليميا، إذ يقول: "هذه رؤيتنا قد شرحنها، وهذا سبيلنا قد جليناه، فإن وافقتمونا عليه وارتضيتموه لنا منهاجاً وطريقا، وأقتنعتم بفكرة قتال طوائف الردة فنحن لكم جنـد محضرون، نعمل تحت رايتكم وننـزل على أمركم، بل ونبايعكم علانية على الملأ.

على الرغم من اختلاف الاجندة فقد أسفرت الاتصالات التي استمرت أكثر من ثمانية أشهر عن البيعة والانضمام بتاريخ  8 تشرين الأول/ أكتوبر 2004، وتم الإعلان عن تأسيس "قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين"، وبهذا فإن الخلاف الحالي بين تنظيم الدولة الإسلامية وتنظيم القاعدة جذوره راسخة ومعروفة، وقد ساهمت سياسات "الحرب على الإرهاب" على التوحد وتجنب الخلاف، فهل تساهم ذات السياسات بإصلاح العلاقة بين الطرفين بعد صدور قرار مجلس الأمن القاضي باستهداف الدولة والنصرة والقاعدة باعتبارهم شيئا واحدا موحدا.